المصري ولاء كمال لـ"العرب": كاتب الرواية ممثل محترف

العالم مثخن بالعنف، يوميا أحداث متتالية من القتل والإرهاب والتعنيف، وبينما يهرب كثيرون من هذا الواقع المرير فإن المبدعين يتصدون له، بالفهم والتحليل ثم المقاربات التي تهدف إلى مقاومته، فلا شيء يقاوم قبح العنف مثل جمال الإبداع. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الروائي المصري ولاء كمال الذي اختار الرواية طريقا لمقاومة العنف.
يمد القبح أذرعا في الظلام، يصطاد خدمه ويوظفهم لنثر الشر رذاذا من الخراب والفزع ويسد مسالك العمران، وهو ما يُثير مبدعين مهمومين بالشأن العام لرفع رايات المقاومة، وينتفض شعراء وروائيون وكُتاب قصص للانخراط في مواجهة الإرهاب بإبداع فاحص، يطرح أسئلة ويُفتش في الخلفيات لنقل صور حقيقية لدوافع الانخراط في فرق الموت الدينية.
الروائي المصري الشاب ولاء كمال، واحد من هؤلاء، حيث أصدر قبل أيام بالقاهرة رواية جديدة بعنوان “القداس الأخير” ليفتح من خلالها نوافذ البحث والتحري والتساؤل عن سر تحول بشر مُحبين للحياة إلى أعداء لها.
تتفرس الرواية في وجوه القتلة، وتفحصهم بعناية، وتفتش في ملامحهم الشكلية والنفسية مُستقرئة دوافع الشر الجارف الذي يُجرجر فتاة أوروبية مُتحررة باحثة عن الحب إلى أن تصبح قنبلة بشرية تنشر موتا وخرابا في بلادها وبين أهلها تحت وهم شراء الخلود والفوز بالجنة.
تساؤلات حائرة
يؤكد ولاء كمال أن مشاهد بعض التفجيرات التي وقعت في عواصم أوروبية وضعته في مأزق البحث عن إجابات لتساؤلات مُزعجة حول تحولات البشر وتغيراتهم وانقلابهم من الخير إلى الشر، ومن الحب إلى الكراهية، ومن التحضر إلى الدموية في لحظات فارقة.
ويقول إن مشهد استيقاظ إنسان ليجد أحد أقرب الناس إليه قد فجر نفسه هو المشهد الحاكم الذي تخيله وبدأ به حكايته، مستثمرا معايشة واسعة لمجتمعات أوروبية وقراءة حكايات تقابل الحضارات وصدامها وما تخلفه من ضحايا وكوارث، وهي الصورة التي ظلت تلح عليه شهورا طويلة، وبعدها توالى كل شىء.

الشر لا يصنع في قوالب جاهزة، إنما هي مجموعة من المئات من العوامل والتفاصيل الصغيرة التي يمكن مواجهتها
ولم تحاول الرواية تقديم تفسير واحد للإرهاب، لكنها سعت لبحث ما ورائيات الأحداث من تشابكات وتعقيدات تموج بها المجتمعات الأوروبية نفسها.
ويوضح كمال، لـ”العرب”، أن هناك سؤالا رئيسيا ظل يطارده هو ما الذي يجعل مواطنة أوروبية، تمتعت بكل ما يتمتع به الإنسان الغربي المتحضر من مزايا وتقدم تتحول هذا التحول السافر لتصبح إرهابية وانتحارية.
وبدت محاولة الإجابة على هذا السؤال عصب الرواية الرئيسي، ففي رأيه “دون تبرير هناك أمور شديدة التعقيد داخل كل كائن بشري تحتاج أن تُقرأ”.
يشير كمال إلى أن هناك مجتمعات تمثل بيئات خصبة لنمو التطرف وتمدده مثل المجتمعات الأوروبية بأكثر مما تمثله المجتمعات العربية وما تحمله من تناقضات ومواطن خلل اجتماعي.
وتقدم الرواية حكاية كاتب مصري عاش زمنا من حياته في أوروبا وأحب فتاة متحررة ومثقفة تُدعى “ماري”، وتزوجها بعد أن أشهرت إسلامها وبدت معتدلة وطبيعية، ثم اختلفا، وانفصلا، لتبدأ صراعا نفسيا شرسا تُعادي فيه قيم مجتمعها وترفضها، وتعود إلى بلادها لتتزوج من متطرف ينتمي لداعش، يقنعها بتفجير نفسها في قداس بكنيستها التي نشأت وهي تتردد عليها، ما دفع الكاتب للبحث عما حدث لطليقته من تحولات نفسية لتصبح دموية.
ويذكر الروائي في حواره مع “العرب”، أن الإنسان ذاته يشهد من داخله كمية تناقضات رهيبة، فروايته تقوم في الأساس على ذلك المفهوم، وحكاية الرجل الذي حبس ابنته لأربع وعشرين عاما، وهي قصة واقعية حدثت في أوروبا، وأوردها في روايته، تشير إلى أنه كان يحب ابنته لدرجة خوفه أن ترحل مع أي شخص تحبه، لقد كان هذا الإنسان مفعما بالحب لدرجة الإقدام على ما لا يمكننا تخيله من بشاعات تثير اشمئزاز الناس.
ويتابع “الشر لا يتم تصنيعه في قوالب جاهزة، إنما هي مجموعة من المئات من العوامل والتفاصيل الصغيرة التي تتكون على مر سنوات في حياة الشخص، وهي التي تدفعه في النهاية لأن يأتي بمثل هذا الفعل المشين”.
الفهم طريق المواجهة
حول بحوثه للوصول إلى قراءت واقعية لشخصية الإرهابيين من ذوي الخلفيات الأوروبية، يقول كمال “صحيح أن الخيال يمنح الحكاية والشخوص الحياة، ويثير بداخلنا العواطف القوية والترابط الإنساني الجميل الذي تحدثه الكتابة، لكن في الوقت ذاته أنا مغرم بالبحث، وعاشق لتنويع مصادر المعلومات”.
وأمضى الروائي المصري عاما ونصف العام في كتابة الرواية، بعد أن قرأ العديد من الكتب والتحقيقات الصحافية التي تمت مع أوروبيات انضممن لداعش، وشاهد العشرات من الأفلام الوثائقية حول الجماعات الإرهابية، وكيفية تجنيدها لمواطنين يعيشون في أوروبا.
ويشير، إلى أنه كان من الواضح وجود شعور عام بالغبن تجاه المجتمع القادم منه الإرهابي، رغم أنه مجتمع أوروبي، لذلك فإن هؤلاء صاروا لقمة سهلة لمسؤولي التجنيد في الجماعات الإرهابية للتحول إلى رماح مضادة لبلدانهم.

أيامي مع كايروكي كتاب يحكي رواية عن الفن والموسيقى والإبداع، كتاب يبحث عن المتفرد وسط هذا العالم، هو كتاب حكاية جيل أراد أن يغير العالم
ويكشف كمال في حواره، أنه حرص على معرفة الجوانب التي لا نراها دائماً إثر كل فعل إرهابي، وعلينا أن نعرف كل شىء عن ذلك الانتحاري، وكيف يراه من كانوا جزءاً من حياته؟ وكيف تراه أسرته؟ وأصدقاؤه؟ ومن أحبوه يوماً؟ هل سيرونه بنفس الصورة المجردة التي نراه نحن بها حين نطالع ما فعله في نشرة الأخبار؟، لذلك فالأمر يستحق الكثير من التعمق.
ويذكر “إنها ظاهرة لا تتوقف منذ عقود، ونحن كعرب ومسلمين ندفع ثمنها كل يوم ولابد أن نحاول كمثقفين معتدلين أن نصل إلى مكمن القصة، حتى إن كنا سنكرهه ونفهم من أين أتى، ربما تكون هناك إجابة عن سبب ما قام به”.
لكن ما الحل، وكيف المواجهة؟ يقول الروائي المصري، لـ”العرب”، إن الثقافة هي طريق المواجهة الأول، فهي سبيل التعايش، ومضاد الكراهية، فالفهم يقودك لتجاهل ميراث الكراهية المُصدر والمقابل لصعود اليمين المتطرف في المجتمعات الغربية وتفشي العنصرية بشكل واضح في السنوات الأخيرة.
ويضيف أن الأدب، والرواية تحديداً قادرة على نزع فتيل التوتر والكراهية قدر الإمكان، عبر الدعوة للفهم، ونبذ التعصب، ومحاولة استيعاب الاختلاف، فوجود إنسان عربي مثقف وصاحب وعي الحل الوحيد لمواجهة الظلام.
ويتساءل الروائي عما يمكنه تحمل عبء مثل هذه المهمة أفضل من الروائي والمثقف؟ كاشفا أن الكتابة بالنسبة إليه احتياج وليست اختياراً، فهو يراها الوسيلة الوحيدة التي تجعله سوياً ومحتملاً للتعامل مع الحياة.
ويقول إنه يعشق الحكي، وفي تصوره فإن الكتابة هي التواصل الحقيقي مع الآخرين، الشعور بهم، محاورتهم، التوحد مع مواجعهم، والبحث عن إجابات لتساؤلاتهم المحيرة.
تلبس الشخوص
حول كيفية رسمه لشخصيات مركبة ومعقدة، يقول كمال “الروائي مثل الممثل المحترف الذي يتلبس الشخصية تماما حتى يكاد لا ينفصل عنها، وهو لا يقوم بعمل ملفات للشخصيات وتاريخها وسماتها مثلما يفعل البعض من الروائيين، لكنه يترك الشخصية تترسب داخله على مدى شهور، وربما سنوات، ويستمع إلى صوتها، ويحس بمشاعرها، ويتابع انفعالاتها، ويعرفها تماما كأنها داخله”.
وهي، في رأيه، مسألة مرهقة جدا للكاتب، لكنها تمنحه قدرة استثنائية على عيش حيوات عديدة، فالعمل الروائي يستحق من كاتبه أن يشحذ طاقاته ويوظفها جميعا لصناعة جمال خلاق.
ويبدو ولع الروائي بالأماكن والانتقال مثيرا للانتباه، كأنه يُكرر سنوات حياته التي تحمل مزيجا من خلفيات جغرافية متنوعة، مشيرا إلى رغبته في تجهيل المكان، قدر الإمكان، وعدم ربطه بانطباعات مسبقة سعيا وراء رسم عالم شديد الخصوصية والتفرد، تتمدد فيه مساحات الخيال مع ما يمنح القارىء قدرة على التفاعل والشعور بالحركة الدؤوبة للشخوص داخل العمل الروائي.
وتدفع الضرورة الدرامية الشخوص لدى الروائي للحركة، لكنها حركة مستمرة تعكس الانفعالات والصراعات التي تمر بها الشخصيات، فضلا عن رغبتهم القلقة في العثور على إجابات كافية ووافية، والاستراحة من الهموم الوجودية التي يمرون بها، كأنهم لا يجيدون الاستقرار ويبحثون عن إجابة.
ويؤكد الروائي المصري، أنه مغرم بالتفاصيل البصرية والأجواء والروائح والأصوات والألوان ودرجة الحرارة، لأنها تفاصيل تساعده على نقل القارئ إلى داخل النص، والوقوف إلى جوار الشخصية الروائية كأنها أمامه، ويتمكن من التوحد معها بشكل لحظي، وتصله الانفعالات الداخلية بشكل حقيقي.