"المداح" دراما مصرية تغوص في ثقافة البيئات الشعبية

حمادة هلال لـ"العرب": العمل يحمل رسالة مفادها "كذب المنجمون ولو صدقوا".
الاثنين 2021/05/17
أداء صادق عن شخصية متقلبة

يحافظ الفنان المصري حمادة هلال على العمل في منطقة درامية محددة في غالبية أعماله، حيث يسعى دوما للاقتراب من البيئة الشعبية التي قضى فيها جزءا من حياته دون تشويهها بالبلطجة والعنف، وتقديم شخصيات تحمل تناقضات داخلية، وتحمل كمًّا من الخير والشر المبرّرين معا، فيخطف التعاطف من جمهوره الذي يتابع أعماله.

القاهرة - جذب الفنان المصري حمادة هلال الأنظار إليه بمسلسل “المداح” الذي استطاع من خلاله الترشح لجائزة نقاد الدراما العربية التي تنظمها مؤسسة “فنون” للثقافة والإعلام ضمن المسلسلات المصرية المشاركة في السباق الرمضاني الأخير، عن شخصية المنشد الديني “صابر” المليئة بالتداخل النفسي والسحر والشعوذة والبركة.

وجاءت القصة مكتوبة بشكل يتواءم مع المعتقدات الشعبية الدارجة في مصر عن منشد ديني ذي صوت عذب نشأ يتيما، ولديه قدرات خاصة يرى عبرها بعض الغيبيات ليُعالج مرضاه بالقرآن ويخرج عنهم الجان الذي يتلبّسهم، وتعتبر تلك الأفكار من المرتكزات الأساسية في التعامل مع فكرة المرض غير العضوي في المناطق ذات الثقافات المحدودة التي تردّ كل أسباب الإيذاء إلى قوى غيبية غير منظورة.

حمادة هلال: تناقضات صابر بين الخير والشر شجّعتني على أداء الدور

وقال حمادة هلال في حواره مع “العرب” إن شخصية صابر موجودة في الواقع، وتناقضاتها شجّعته على أداء الدور، فهي تجمع بين العمل كمدرّس ومدّاح وشاف وفاتح مقابر أثرية، وكلها صفات جذابة. ومواصفاته الشكلية والنفسية جاءت نتيجة خبرات سابقة صادفها بالفعل في حياته.

وأضاف الفنان المصري أن “صابر يملك بركة وهبة نورانية جعلته معالجا روحانيا قبل أن تتبدّل الكثير من سلوكياته باستغلاله لهذه الموهبة، ويحمل رسالة مفادها “كذب المنجمون ولو صدقوا”، ويتجسّد ذلك في النهاية الأليمة والمأساوية لكل من يُمارس الخداع.وتبارى الكثيرون خلال عرض العمل لإيجاد أوجه تشابه بين “المدّاح” والتراث السينمائي السابق الذي تناول فكرة الدجل مع فيلم “البيضة والحجر” للفنان الراحل أحمد زكي وفيلم “إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين” عن خداع البسطاء بأعمال السحر، لكن هلال أكّد أن المعالجة في “المداح” جاءت مختلفة تماما.

ولعب المسلسل كثيرا على الجانب الروحاني الذي يوجد لدى قطاع كبير من البشر بصورة أو بأخرى، فقد يُصاب البعض بانقباض في الصدر يجعله يعدّل قرارا مصيريا خاطئا، أو تؤكّد الأيام صدق توقّعه أو أن تباغته رؤى تتحكّم في قراراته، وكلها نماذج قدّمها العمل في رسمه لشخصياته وتفاعلاتها في الحياة.

وأوضح هلال لـ”العرب” أن المسلسل لم يحمل إسقاطا لجماعة دينية بعينها ولم يقترب من السياسة من قريب أو بعيد، على الرغم من أن فكرة “المدّاح” تغرّد خارج سرب باقي الأعمال الرمضانية وتضمّنت انتقالا تدريجيا سلسا من الخير إلى الشر، ولأسباب خاصة لا تتضمّن أي قدر من العمومية .

بين الفشل والنجاح

أداء صادق عن شخصية متقلبة
أداء صادق عن شخصية متقلبة

داعبت فكرة المسلسل حمادة هلال منذ ستة أعوام، لكنها لم تجد حماسا من المنتجين لأنها أشبه بالمغامرة غير مأمونة العواقب أو سلاح ذو حدين، فإما أن تنجح نجاحا منقطع النظير أو تشهد قدرا من المبالغة فتفشل فشلا ذريعا، وتم انتقاء اسم المدّاح بعناية على اعتبار أن هناك من يمدح الخير وهناك من يمدح الشر، وكلاهما يختار طريقا يتضمن في النهاية ثوابا أو عقابا.

ورغم أن العمل يقدم التصوّرات الشعبية المعتادة عن عوالم المردة والسحرة، لكن جهاز الرقابة على المصنفات الفنية تدخل بحذف مشهد إخراج الجان من العروس في الحلقة الأولى من العمل، والذي قال هلال إنه لا يتضمّن مبالغات، فهي أمور تتكرّر عند إخراج الجان، والمس مذكور في القرآن الكريم، لكنه يحترم رأي الرقابة في النهاية.

الفنان المصري تنقّل في "المداح" بسلاسة بين الخير بصفائه ونورانيته والشر وما يتبعه من إحساس بالذنب وتأنيب الضمير

ويظهر اقتناع هلال الكبير بالفكرة كثيرا على أدائه الذي نبع من معايشته للأجواء الشعبية في موطن نشأته في حي الزاوية الحمراء في القاهرة، وتنقله في طفولته في مهن بسيطة، حتى أنه يرفض وصم الشخصية التي أدّاها بالدجل، ويؤكّد أنها نورانية قريبة من الله. لكن القلوب بين إصبعين من إصبع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فصابر الذي يستغل قدراته للخير يقابل الشيطان ويغويه فيحدث تغيرا جذريا في شخصيته ويستغل قدراته للشر.

ولم يتمسّك الفنان المصري كثيرا بفكرة البطولة والغناء المطلق في العمل والتي قد تثير انتقادات البعض بكتابة القصة على مقاسه، فلم يقدّم كل الأغاني والمديح واستعان بآخرين كان لهم حظ من الإنشاد والمديح ليخلق قدرا من الجماعية في الأصوات ليشبه الأمر حفلة موسيقية دينية كلما زاد مطربوها كانت أفضل.

مدح صوفي

الإنشاد الديني أحد عناصر نجاح العمل
الإنشاد الديني أحد عناصر نجاح العمل

مثلت أغاني المديح النبوي أهم عناصر التميز في العمل، فكانت الأكثر جذبا للأنظار في ظل الفراغ الذي تعانيه الدراما الدينية وتشوّق قطاعات من الجمهور لبعض الهبات الصفائية التي تماشت كثيرا مع هلال الذي قدّم أغاني المديح في أكثر من قصيدة مثل “محمد نبينا”، و”صلوا على رسول الله”، كما شاركه بعض الفنانين ولاعبي الكرة والإعلاميين تصوير كليب قصيدة “مشتاقين” وحقّق مشاهدة مرتفعة على يوتيوب.

وأوضح هلال لـ”العرب” أن الواقعية أهم سمات المسلسل، حتى مشاهد الاستعانة بالشيوخ لفتح المقابر الفرعونية لم تكن مفتعلة، وهي شائعة وتحدث عند وجود كشف أثري، حيث يقرأ الشيخ بعض آيات القرآن الكريم أثناء فتح المقبرة المغلقة منذ آلاف السنين، لتحييد من يسمّون بـ”خدام المكان من الجان حتى لا يتعرّض من يحاولون فتحها للإيذاء البدني والنفسي”.

ويتّسم هلال بالهدوء التمثيلي في أدواره ومن دون مبالغة في الأداء، فتماشى ذلك مع طبيعة الشخصية التي قدّمها عن اليتيم المجهول ونظرة المجتمع له، وهي إشكالية تخلق في نفوس المئات من البشر ندوبا لا تندمل بسهولة.

مسلسل “المداح” صنع مساحة واضحة بين المنشد الذي يضل طريقه والمشعوذ حتى يسهل التقاطها بسهولة عبر حوار متّزن من قبل المؤلفين

واستطاع الفنان المصري الذي ظل حتى وقت قريب يصنّف كمغن أكثر من كنايته بالممثل أن يجيد التعبير بملامح الوجه عن تقلبات شخصيته بين البشاشة والطيبة والنورانية في الحلقات الأولى، ثم العبوس والإحساس بالخطيئة وتأنيب الضمير بعد ارتكاب جريمة القتل، ليثبت أن قدراته تتنامى في طريق التعبير عن الأدوار المركّبة.

وصنع مسلسل “المداح” مساحة واضحة بين المنشد الذي يضل طريقه والمشعوذ حتى يسهل التقاطها بسهولة عبر حوار متّزن من قبل المؤلفين أمين جمال ووليد أبوالمجد وشريف يسري، ورؤية إخراجية متقنة لأحمد سمير فرج تجسّد المنطقة الشعبية التي يقطن فيها البطل بواقعية بعيدة عن الافتعال.

ويصمّم هلال على تقديم صورة مغايرة للحارة الشعبية، ففي مسلسل “طاقة القدر” الذي قدّمه قبل عامين تناول قصة تمزج بين الرومانسية والتشويق عن صعود شاب عبر الاجتهاد والكسب الحلال دون الانجرار إلى البلطجة والخروج على القانون، وهي فكرة مغايرة تماما للسائد عن المعالجات الأخيرة للحارة المصرية.

وأكّد لـ”العرب” أن الأداء التمثيلي للكثير من الفنانين كان أحد أسباب نجاح المسلسل، فالفنان أحمد بدير تنقل بين التراجيديا والكوميديا ببراعة، وحنان سليمان التي لعبت دور الأم الحنون أدّت دورها بإتقان، وخالد سرحان أتقن دور الشقيق الفاسد ومدمن المخدرات، والفنانة نسرين طافش لعبت دور الزوجة والحبيبة بإجادة عالية.

وراهن مسلسل “المداح” على الجودة والإيقاع السريع والحبكة الدرامية التي جعلت الجمهور يتابعه، رغم عدم عرضه في توقيت مميز أو تنظيم حملات دعائية قوية في موسم رمضاني يتّسم بالمنافسة الشديدة.

17