الكاتب منتحرا

ظاهرة الانتحار لدى الشعراء والكتاب قضية شائكة عجز الباحثون عن حلها.
السبت 2019/11/02
محمد عمر عثمان آخر الشعراء الراحلين

يُعيد إقدام الشاعر الكردي العراقي محمد عمر عثمان على وضع حد لحياته، قبل أيام، موضوعَ الانتحار إلى الواجهة.  وإذا كان العالم يشهد حالة انتحار كل أربعين ثانية، فإن الأمر يبدو مختلفا حينما يتعلق بشاعر، يُفترض فيه أن يكون أمينا على الحياة وعلى جمالها. وإن كان الشاعر يبدو الأقرب، في نفس الوقت، إلى لعبة الانتحار. ذلك لأن القصيدة يمكن أن تقيم عند الحدود الهشة الفاصلة بين الحياة والموت وبين الفرح والضيم وبين الشيء ونقيضه.

ولا تشكل حالة محمد عمر عثمان الأولى ولا الأخيرة. بل إن ظاهرة انتحار الكُتاب تمثل عنصرا مشتركا عابرا لكل اللحظات ولكل الجغرافيات الثقافية الإنسانية. ففي كثير من اللحظات، هناك من يتطوع لمفاجأة محيطه وقرائه مخلفا وراءه أكثر من سؤال.

قبل سنوات، اختار الشاعر اللبناني خليل حاوي وضع حد لحياته بإطلاق النار على نفسه احتجاجا، فيما يبدو، على الاجتياح الإسرائيلي للبنان، خلال بداية ثمانينات القرن الماضي. وقريبا من هذه الحالة، يمكن استحضار انتحار الشاعر الأردني تيسير السبول الذي كان قد حاز على جائزة مجلة شعر، التي كان وراء إطلاقها الشاعر خليل حاوي.  أما المشترك بينهما فهو الاحتجاج على السياق العربي المحبط.

في الضفة الأخرى، سيختار الكاتب الأميركي إرنست همنغواي، الحائز على  جائزة نوبل للآداب وصاحب رواية “الشيخ والبحر” الشهيرة، وضع حد لحياته في سياق مختلف أشبه بانتحار جماعي درامي. إذ طال نفس المآل عددا من أفراد عائلته. ويتعلق الأمر بوالده، وأخته الفنانة التشكيلية أرسولا همنغواي، وأخيه الكاتب  لييستر همنغواي، صاحب كتاب “همنغواي، أخي”، بالإضافة إلى حفيدته الممثلة وعارضة الأزياء مارغو همنغواي. بينما ستُنقد أزمة  قلبية مميتة جاك همنغواي، الابن الثاني لإرنست همنغواي، من مآل الانتحار الدرامي، حيث سيتوفى فوق سرير المرض، بعد أن أصدر كتابه “باريس حفلة”، الذي يستعيد فيه حياة والده بمدينة باريس خلال عشرينات القرن الماضي.

أما ابن همنغواي الثالث، غريغوري همنغواي، الطبيب والكاتب، فستنتهي حياته داخل مركز لاعتقال النساء، حيث كان يقضي عقوبة، بعد أن اختار حياة مختلفة، مفضلا التحول إلى امرأة، متنازلا عن ظل أبيه وعن اسمه لصالح اسم نسائي جديد وهو غلوريا. حفيدة إرنست همنغواي، الممثلة ماريل، ستطلق حملة، على مستوى الولايات المتحدة الأميركية، للتنبيه إلى خطورة ارتفاع نسبة الانتحار بالبلد. كما ستشارك في  الفيلم الأميركي “نادي الانتحار”. وكانت تلك طريقتها للتخلص من لعنة ظلت تلحق عائلة بكاملها.

رغم خصوصية ظاهرة الانتحار، خصوصا في صفوف الكتاب والمثقفين، تندر الدراسات والكتابات العربية التي تخص الظاهرة

وبمعزل عن هذه الحالة، يضرب الانتحار صفوف الكُتاب، سواء المتوَّجون منهم أو الذين بدأوا للتو مسارهم الإبداعي. وفي الحالة الأخيرة، يصير الانتحار مضاعَفا، لأنه قد يقتل تجربة إبداعية لم تبدأ أو لم تنضج بعد. ولعل ذلك حال الشاعر الكردي العراقي محمد عمر عثمان، الذي كان قد أصدر ديوانه الوحيد “في الغربة”، والشاعرة الجزائرية صافية كتو، التي اختارت أن تلقي نفسها بشكل درامي من أحد جسور مدينة الجزائر، مخلفة مجموعتها الشعرية الوحيدة “صديقتي القيتارة”، بالإضافة إلى مجموعة قصصية. أما الشاعر المغربي كريم حوماري، الذي وضع حدا لحياته، خلال نهاية تسعينات القرن الماضي، فلم يُكتب له أن يرى ديوانه الأول مطبوعا، وهو “تقاسيم على آلة الجنون”، حيث سيصدر بعد رحليه.

ورغم خصوصية ظاهرة الانتحار، خصوصا في صفوف الكتاب والمثقفين، تندر الدراسات والكتابات العربية التي تخص الظاهرة. ولعل من أهمها كتاب “انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية” لمحمد جابر الأنصاري، الذي يسعى، كما جاء في تقديم الكتاب، إلى “البحث في النزعات الانتحارية لدى المبدعين والمثقفين باعتبارهم أكثر الشرائح ميلاً للانتحار”، مشبها إياهم بالرهبان البوذيين الذين يشعلون النار في أنفسهم للاحتجاج على الظلم أو للتنبيه إلى قضية عادلة. بينما ستعود الشاعرة اللبنانية جمانة حداد إلى موضوع انتحار الشعراء عبر عملها الأنطولوجي “سيجيء الموت وستكون له عيناك”، الذي يخص مئة وخمسين شاعراً انتحروا في القرن العشرين.

في مقابل ذلك، تتواصل في الضفة الأخرى سلسلة الأعمال اللامتناهية والتي تعود إلى تجارب الكتاب المنتحرين، بهدف إضاءة المناطق الخفية التي قد تكون وراء انطفائهم.

في كتابهما المشترك، “الحياة المزدوجة لفيرجينا وولف”، تعود الباحثتان الفرنسيتان جُنفيف بريساك وأغنيس ديسارت، إلى وولف الكاتبة والإنسانة، بغية تقريب القارئ من قوتها كامرأة، وأيضا كأحد الأسماء التي رسمت مشهد الكتابة البريطانية، قبل أن تنهي حياتها، حيث أغرقت نفسها في نهر الأوس القريب من بيتها.

في نفس السياق، ستعود الباحثة الفرنسية دومنيك فريشر، عبر كتابها “ستيفان تسفايغ: تشريح انتحار”، إلى إعادة رسم سيرة الكاتب النمساوي ذي الأصول اليهودية ستيفان تسفايغ، الذي قضى حياته هاربا من النازية، ليلجأ في نهاية المطاف إلى البرازيل، حيث أنهى حياته رفقة زوجته. بينما ستكون الأيام الأخيرة لستيفان تسفايغ موضوعا للفيلم الشهير “وداعا أوروبا”، الذي أخرجته، قبل ثلاث سنوات، المخرجة الألمانية مارية شرادر.

أما الكاتب الفرنسي إدوار ليفي فقد اختار أن يصدر كتابه “الانتحار”، وهو في حدود العشرين صفحة  فقط، حيث يعود إلى الموضوع بطريقة مختلفة؛ إذ فضل أن يكون النص أشبه برسالة مفتوحة إلى صديق مفترض أقدم على الانتحار.

في حوار كنت قد أجريته، قبل سنوات، مع  الشاعر البرتغالي كازيميرو دي بريتو، اخترت أن أسأله في نهايته عن حضور موضوع الموت في نصوصه الأخيرة، فكان جوابه: “سأقول لك أمرا مهما، لم يسبق لي أن صرحت به لأحد. لدي إحساس بأن ما يربطني بهذا الوجود هو أمي، التي تقضي أيامها الأخيرة بدار العجزة، وبرحيلها سأكون مستعدا لإنهاء حياتي”. توفيت الوالدة، غير أن دي بريتو مازال شاعرا نشيطا في الثمانينات من عمره. إنها الرغبة في الحياة التي تنتصر على ثيمة الموت التي تحفل بها نصوص الشعراء.

15