القصائد صيدليات مفتوحة والشعر علاج عمومي

خلال هذه الأيام شرع معهد الفن والأفكار بلندن في إطلاق سلسلة من النشاطات الفكرية والإبداعية عبر شبكة الإنترنت، من أجل علاج الكدمات والفجائع التي ما فتئت تنجم عن غزوة فايروس كورونا لكوكبنا المشبع بالفقر والأوبئة والحروب ومهاجرين تقفل في وجوههم كسرة الخبز وتوضع هوياتهم في مدار الاغتراب.
خلال تهديدات كورونا للبشرية بالموت، بغض النظر عن الجغرافيا والفروق في السن والعرق والعقيدة السياسية والدين والنوع والانتماء الطبقي، يجب أن تقول الفلسفة كلمتها ولا شك أن حركة هذا المعهد تمثل إحياء مميزا لدور الفلسفة في استنبات التفكير الكوني السليم لمساعدة البشرية في إدارة شؤون حياتها وفي توفير مقترحات قد تساهم في حل المشكلات والأزمات الكبرى التي تواجهها.
وقد بدأت هذه الأفكار تتبلور أكثر فأكثر بعد استفحال عنف كورونا، وإثر صدور تعليمات عن الحكومة البريطانية تأمر الناس، وخاصة المسنين ذوي الأجسام الهشَة والأشخاص المصابين بالأمراض المزمنة، بالبقاء في منازلهم وعدم الخروج إلا لأسباب ضرورية واستثنائية جدا لتفادي الإصابة بهذا الفايروس القاتل أو يقومون بلا وعي بنقله إلى الآخرين.
في هذا الخصوص استضاف هذا المعهد في موقعه على الإنترنت مجموعة من المفكرين والفلاسفة البارزين ليتحدث كل واحد منهم، حسب تخصصه، حول أخلاقيات استخدام الأدوية أو اقتراح طرائق العلاج، والدور المؤذي الذي تلعبه الموالاة في “إضعاف القدرة على التعامل مع الآخرين المختلفين عنَا بشكل متمدن”، وحول السبل الكفيلة بالتغلب بواسطة الشعر على صدأ صمت الجدران التي تحاصر النفوس القلقة. ففي هذا السياق جاءت مساهمات كارن سيميسك أستاذة فلسفة الشعر والجماليات بجامعة وريك البريطانية، والفيلسوف والناشط السياسي بحزب الخضر روبرت ريد، وروبرت طاليس رئيس قسم الفلسفة بجامعة فاندربيلت.
أثناء مطالعتي لهذه المساهمات التي ضمها ملف معهد الفن والأفكار، لفت انتباهي نصَ الفيلسوفة كارن سيميسك وهو بعنوان “هل ينبغي أن نعالج الوحدة بالشعر؟” نظرا إلى طرافته وارتباطه الوثيق بحدث غزوة فايروس كورونا الدرامي والمرعب لعش البشرية الهش على سطح كوكبنا الأرضي. أريد أن أتأمل في بعض تساؤلاتها عن دور الشعر في هذا الزمان الصعب وأبدأ باستعادة تساؤل للشاعر الفرنسي أرثر رامبو “أيتها الفصول، أيتها القلاع، ماذا تكون الروح دون تصدعات؟”.
لا شك أن التصدعات التي تحدث الآن في حياة الناس في جميع القارات قد جعلت الفيلسوفة كارن سيميسك تتساءل هكذا أيضا “هل يستطيع الشعر أن يجعلنا أقل عزلة؟ وهل قراءة القصائد لها أي سلطة حقيقية تعزي الناس أو تشفيهم؟” وتقودنا أسئلة سيميسك إلى التساؤل معها أيضا: كيف يمكن أن يكون الجواب بنعم في الوقت الذي يرى أن الناس “يلتقون بالشعر كتجربة انفرادية، ويقرأونه وحيدين وفي الصمت”، وترى كذلك انتفاء القدرة لدى الشعر تجعلنا أقرب إلى مجتمعاتنا أو تخفف من العزلة. وجراء هذا نجدها تقترح علينا بلطف أن نقفل كتب الشعر، ونخرج ثم نمضي مباشرة إلى العالم.
لكن سيميسك لا تتمسك بشكل نهائي بأحكامها، على العكس فهي تذكرنا بأطروحة الرافضين لمثل هذه النظرية مبرزة أنهم يسلمون أن للشعر سلطة مادية أو معنوية تقربنا من مجتمعاتنا أو تساعدنا على مسح سخام الكآبة عن أرواحنا، ويستند أصحاب هذه الأطروحة في تقديرها إلى حجة دامغة تقول إن “الشعر يردد صدى الحالة العاطفية للأفراد (لنقل الوحدة) ويساعدهم على التعامل معها وإدراك كيف يحسون”.
ومن الطريف أن الفيلسوفة كارن سيميسك تعلمنا أن هناك “حركة العلاج بالشعر” مهمتها تتمثل في تقديم وصفة الشعر لمعالجة أشكال العذاب التي يعاني منها الأفراد بدءا من الألم الحاد المزمن إلى القلق، وفي هذا السياق تقول إن وليم سيغرت هو أحد المدافعين عن هذه الحركة وهو مؤلف كتاب “صيدلية الشعر” وأورد فيه أبياتا شعرية للشاعر حافظ الشيرازي وصفة لقهر الوحدة واستقاها من ديوانه الموسوم بـ“الصورة اللامعة”:
يا ليتني أقدر أن أريك
نور وجودك المدهش
حين تكون وحيدا أو في الظلا
وتعني أبيات هذه الوصفة الشعرية التي يقتبسها ويقترحها علينا وليم سيغرت لعلاج الوحدة أن في كل نقطة من الظلام أو في أي بنية النفس الوحيدة، ثمة أنوار الذات التي تنشد رفقة الآخرين. وفي مكان آخر من نصها تفتح كارن سيميسك أيضا بابا للتفكير في كيفية صنع الجسور التي ينبغي أن ينشرها الشعر لتوصل بين الناس مبرزة ما معناه أن الشعر يوفر للناس الإحساس بالجماعية، وتستدل على ذلك بقول الشاعر البريطاني ديفيد قسطنطين صاحب ديوان “شيء ما للأشباح” إن “الشعر عمومي، ومادته الخام عمومية. ويجيء الشعر مما نملكه ونشترك فيه كبشر”.
ولكن هذا المشترك الشعري الذي تتأسس عليه العلاقات البشرية ويسند إليه دور هدم جدران الوحدة الفاصلة لا تقابله شراكة في خيرات الأرض، والعدالة في العلاقات الدولية، وأكثر من ذلك فإن هذه الشراكة في اللغة التي نتواصل بواسطتها تتخللها الاختلافات، وعلى هذا الأساس تحديدا تدعونا كارن سيميسك إلى العمل بوصية وليم سيغرت التي تحثنا على إدراك التمييز الذي أقامته المفكرة حنة أرندت بين الوحدة وبين العزلة، حين قالت “يمكن للعزلة أن تصبح وحدة، وهذا يحدث عندما أكون مهجورة كلية بواسطة نفسي لنفسي”.