القراءة للآخرين

روح الفكرة النبيلة فتقوم على تطوّع الناشرين لتوفير صيغ من منشوراتهم بشكل يمكن تحويلها إلى كتب تنير حيوات الآخرين، بعيدا عن منطق الخسارة والربح.
السبت 2018/11/03
الناشرون العرب ينسون أن هناك قراء لهم انتظاراتهم الخاصة وأن لهم الحق في القراءة

فوجئت، وأنا أتجوّل في فضاء معرض جنيف الدولي للكتاب والصحافة، بلقاء استثنائي كان يجمع الأطفال فقط. كان هؤلاء موزّعين على صفين متقابلين. أما الأمر المدهش فهو أنني سأفهم باقترابي من فضاء اللقاء المفتوح أن الأمر يتعلق بحوار يجمع أطفالا مع زملائهم من ذوي الاحتياجات البصرية.

كان أطفال الصف الأول يتناوبون على الميكروفون ليسألوا بكل عفوية وبكل جدية زملاءهم عن قدرتهم على القراءة، وعن آخر عناوين الروايات التي استمتعوا بها، وعن كيفية اختيارهم لألبستهم، وعن علاقتهم بالألوان، وعن غيرها من تفاصيل حياتهم اليومية المعتّمة والتي يمتلكون القدرة على تحويلها إلى مناطق متلألئة بفضل القراءة، معبَرهم نحو العالم. على الأقل كما كانت تكشف عن ذلك أجوبة الأطفال من ذوي الاحتياجات البصرية، التي كانت أكبر وأعمق من أن تكون وسيلة لإثارة الشفقة.

ولأنني أجد نفسي معنيّا بالأمر، تذكّرت صفوف الأطفال من ذوي الاحتياجات البصرية الذين اعتادوا أن يزوروا المعرض الدولي للنشر بالدار البيضاء، كل صباح، والذين يخطون ببعض الحذر، بأياد متماسكة، منتظرين إشارات سرّية من مؤطريهم، إما لتغيير الاتجاه وإما لتجنّب ممر مختنق. أما الأمر المفارق فهو كون وجهتهم تنحصر في رواق صغير. ولعل ذلك حال أغلب المعارض العربية، حيث يبدو أن الناشرين العرب ينسون أن هناك قراء لهم انتظاراتهم الخاصة وأن لهم الحق في القراءة.

وأجد من غير المفهوم، على سبيل المثال، أن يحجم الناشرون المغاربة عن استثمار الدعم الذي تخصّصه وزارة الثقافة المغربية، منذ سنوات، للنشر الموجه لذوي الاحتياجات البصرية، مقابل إقبالهم على الدعم في بقية المجالات. كما يبدو من المفارق ألا يتجاوز عدد المجلات الموجهة لنفس الفئة، على مستوى مجمل الدول العربية، العنوانَ الواحد، وهو مجلة “الأخبار برايل”، التي تستمر بالصدور بصعوبة.

وفي مقابل ذلك، يبدو مدهشا أن تكون الكتب الموجهة لذوي الاحتياجات البصرية في قلب حدث كبير كما هو الأمر بالنسبة للدخول الأدبي بفرنسا، خلال السنة الحالية كما بالنسبة لسابقاتها، حيث يستطيع القراء من هذه الفئة الاستمتاع بأعمال ياسمين خضرا وفرنسوا بِيجيدو ولورونس كوسي وغيرهم في نسخها الإلكترونية المكتوبة بلغة براي. أما روح الفكرة النبيلة فتقوم على تطوّع الناشرين لتوفير صيغ من منشوراتهم بشكل يمكن تحويلها إلى كتب تنير حيوات الآخرين، بعيدا عن منطق الخسارة والربح الذي يشكل الأفق الوحيد للكثير من ناشري بلداننا.

ولأن الحق في القراءة يشكل جزءا من المواطنة، يبدو تكريسه، في الكثير من المناطق، هاجس الجميع. ولذلك يبدو طبيعيا أن تمتلئ صفحات الويب بدعوات من جمعيات المجتمع المدني، موجهة إلى المتطوعين لتخصيص جزء من وقتهم اليومي لتسجيل الأعمال الروائية وغيرها من المؤلفات بأصواتهم لفائدة القراء من ذوي الاحتياجات البصرية.

ولعل التبرّع بالوقت، في هذه الحالة، لا يقلّ أهمية عن التبرع بالدم. لأنه يمنح حياة جديدة لأعين تبحث عن الضوء.

15