الفوتوغرافي السوري عمار عبدربه يهدي بيروت صورا لذاكرتها الجريحة

"إلى بيروت.." صور توثق دمار المرفأ البيروتي والانتفاضة اللبنانية.
الأربعاء 2020/11/18
حالة إيحائية ورمزية عن الانفجار وآثاره المعنوية على الناس

عنون الفنان والمصوّر الفوتوغرافي السوري عمار عبدربه معرضه الأخير الذي أقامه بغاليري “أيام” في دبي بـ”إلى بيروت..”، مشكلا تحية إلى العاصمة اللبنانية وأهلها في محنتهما الحالية. معرض أتى توثيقا لحادث مربك، ومتحدّثا أيضا برمزيته عن هول الخراب الحاصل في الأنفس البشرية قبل البنى التحتية المتضرّرة من الانفجار.

سبق للفنان والمصوّر الفوتوغرافي السوري عمار عبدربه أن عرض في لبنان بالمركز الثقافي الفرنسي ببيروت وفي “بيت الدين” أعمالا فوتوغرافية مُعدلة فنيا ذات أبعاد فكرية معاصرة كتلك التي تطرّقت إلى الأرقام التي تحكم حياتنا، والتي يُختصر بها الإنسان في المعاملات الإدارية؛ السجلات والنفوس والإحصائيات، إلخ.

وضمّ معرضه الأخير الذي أقيم في صالة “أيام” الفنية بدبي صورا التقطها عبدربّه بعد تفجير مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس الماضي، على أن يتبرّع الغاليري، الذي أقفل أبوابه في بيروت منذ سنتين بسبب عدم الاستقرار السياسي والمالي، بـ75 في المئة من العائدات لدعم جهود “بيت البركة” في إعادة البناء ومساعدة المتضرّرين.

قدّم المصوّر الفنان أكثر من ثلاث عشرة صورة فوتوغرافية بحجم كبير التقطت معظمها الدمار الذي حدث في المرفأ البيروتي، بينما ظهرت في صور أخرى المباني والشوارع المتضررة المحيطة بمنطقة المرفأ.

الناظر إلى صوره لا ينسى أبدا أنه أمام مصوّر فوتوغرافي تمرّس في التصوير الفوتوغرافي الصحافي الذي يكمن همّه الأول في أن يوثّق ما حدث بأكبر قدر من المصداقية. فهو من أكثر المصوّرين الفوتوغرافيين العرب شهرة وقد ظهرت صور له في مجلة “التايم الأميركية” و”باري ماتش” و”لوموند” الفرنسيتين و”دير شبيغل” الألمانية، كما نُشرت له صور على أغلفة مجلات عالمية كثيرة.

ومن المعلوم أنه غطى خلال ما يقارب الثلاثين سنة حروبا وأزمات كثيرة في العراق وليبيا وسوريا ولبنان، وكانت له مساهمة في تصوير شخصيات عالمية واحتفالات عالمية كمهرجان كان السينمائي وإن كانت تلك الصور ليست أهم ما قدّمه.

صورة تأخذ الناظر إليها إلى أبعد من محيط الانفجار، عبر هامات عارية تدين الفاعل دون الحاجة إلى دليل
صورة تأخذ الناظر إليها إلى أبعد من محيط الانفجار، عبر هامات عارية تدين الفاعل دون الحاجة إلى دليل

كذلك الأمر بالنسبة إلى معرضه الأخير، إذ يكتشف المُشاهد صورا يغلب عليها الطابع التوثيقي وليست هي الأكثر الأهمية أمام صور أخرى شكّلت إلى جانب كونها توثيقية، حالة إيحائية ورمزية إن من حيث زاوية التصوير أو من ناحية تصويب المُصوّر لعدسته، خلال لحظات ذهبية من ضوء النهار، على تفاصيل من هيكل المرفأ البيروتي، ولاسيما مبنى إهراءات القمح المدمّر الذي استدعى لفداحة ما تعرّض له فيضا من المصوّرين الفوتوغرافيين العرب والأجانب.

هذه الصور المميزة التي خرجت من مجرد عملية التوثيق بلغ عددها أربع صور تحاكي الخيال وتأخذ الناظر إليها إلى أبعد من محيط الانفجار. ظهرت في هذه الصور جدلية “تشكيلية”، إذا صح التعبير، ما بين البحر المغشّى بضبابية الغبار وسفينة مُصابة بالصدأ والمبنى الذي هو في حد ذاته صرح غرائبي، وكأنه من قصة خرافية ما أو من ملحمة تاريخية تداولتها الحضارات.

صرح اشتدت ملامحه الفنية الغرائبية والدلالية بشكل هائل بعد أن حدث الانفجار. هذا الأمر قد لا يفهمه تماما إلّا المواطن اللبناني أو كل من عاش طويلا في قلب لبنان الذي لم يعرف يوما السكينة.

في هذا السياق لم يصبح المبنى المدمر، غير صالح للاستخدام بالمعنى الحرفي للكلمة بل ضاعف الدمار الذي تعرض له، ولم يرده أرضا، من حضوره وقابليته لأن “يُستخدم” لتنشيط الذاكرة والمُخيلة الفعّالة.

عمار عبدربه: أتمنى من كل قلبي أن تلتئم كل جروح لبنان، وألّا يبقى من المأساة سوى الصور
عمار عبدربه: أتمنى من كل قلبي أن تلتئم كل جروح لبنان، وألّا يبقى من المأساة سوى الصور

مبنى بدا في بعض صور المصوّر عمار عبدربه وكأنه حضور للحياة في قلب الموت، كما أعطى لفساد السلطات السابقة والحاضرة التي تسبّبت في الانفجار وتلف ما يحمله من قوت لكل اللبنانيين، هامة عارية تشير إلى ذاتها، تدين ذاتها دون أي حاجة لأي تحقيق رسمي يُسمع عنه منذ أكثر من شهرين ثرثرة كثيرة، دون طائل.

وتضمن المعرض أيضا صورا أخرى ليست لها علاقة مباشرة بانفجار المرفأ. هي صور فنية وتوثيقية في آن واحد تذكرنا بأن عمار عبدربه ليس مصوّرا صحافيا فحسب، بل حكواتي بصري فنان يريد أن يُخبرنا عن قصة ما أو يفتح لنا باب صوره إلى أفكار ومعضلات تشغل العالم المعاصر بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص.

أما الصور التي اختارها لتكون بمحاذاة صور المرفأ والدمار المحيط، فهي صور التقطها من قلب انتفاضة 17 أكتوبر اللبنانية فحصل الربط الذهني بحضورها بين “الحادثتين”؛ الفساد والانتفاضة عليه وكذلك نتائج برود همة الانتفاضة، أو -وعلى الأرجح- قلة حيلتها أمام عمالقة الفساد المستشري.

في تقديمه لمعرضه يتوجّه عبدربه إلى بيروت قائلا “أتمنى من كل قلبي أن تلتئم كل جروحك، وأن تتلاشى كل الندوب، ويعاد بناء جميع المنازل، وإحياء جميع المشاريع.. وألّا يبقى من هذه المأساة سوى هذه الصور”.

لكن الواقع يقول، على الأقل، حتى الآن أن تلك الصور التي وضعها الفنان لبيروت لا تزال تؤكّد أن لتلك المأساة صورا أخرى لم نعرف نسخها الأصلية بعد، ولكنها تلوح في الأفق كشراع ممزّق في يوم عاصف يحاول أن يجترح المعجزات.

والمصوّر الفنان عمار عبدربه حاصل على إجازة جامعية في العلوم السياسية، لكنه اختار مهنة التصوير حتى لا يصبح “سجين مكتب أو ساعات الدوام” كما كان يصرّح دائما. وهو من مواليد سوريا 1966. عاش في ليبيا ولبنان قبل أن ينتقل إلى فرنسا سنة 1978 بعد اشتداد فصول الحرب الأهلية اللبنانية.

16