الفن الجريح يستعرض ذاته في شكل أراجوز متكرّر

تواصل صالة “نادين فياض” البيروتية تقديم آخر الأعمال الفنية للتشكيلي اللبناني رؤوف رفاعي، كما تقدّمها افتراضيا عبر منصّة متخصّصة كي يتمكّن الجميع من مشاهدة أعماله الأكثر نضجا وتعبيرا عن أسلوبه الفني المحتفي بالدراويش في غضبهم ومرحهم.
قد لا يستغرب الكثيرون أن تعود الصالات الفنية اللبنانية شيئا فشيئا إلى العرض الفني، خاصة أن الأوضاع في البلاد ليست أفضل ممّا كانت عليه منذ سنة، بل أسوأ من ذلك بكثير.
لا غرابة في عودتها، لأن ذلك من شيم اللبناني الذي اعتاد أن يعظّ على جراحه ويستمر، وإن كان لا برد ولا سلام يلوح في الأفق.
أما الغريب فهو أن تقرّر اللبنانية نادين فياض، تلك السيدة الشغوفة بالفن المعاصر، العودة إلى لبنان بعد غياب دام عشرين سنة قضتها في السعودية، حيث كانت تدير صالة فنية تُعنى بشؤون التشكيل والنحت المعاصر، لتحقّق حلما راودها طويلا وهو افتتاح صالة فنية في بيروت.
وقد صرّحت فياض في أكثر من مناسبة أنها مدركة تماما للوضع اللبناني بالغ التأزم، ومطلعة على المرحلة المفصلية التي تعيشها اليوم الصالات الفنية في بيروت، والتي تقول عنها “ستصمد وتتوسّع أكثر إن انضمت إلى لائحة الصالات العالمية التي تعتمد العرض الفني الافتراضي”. وهذا الأخير ليس بالضرورة أن يكون حصريا، بل مرافقا للعرض في الفضاء المادي للصالة الفنية.
وعبّرت فياض عن إيمانها بأن عودتها إلى لبنان وإلى بيروت بشكل خاص سيساهم في تمكين وطنها بالطريقة التي تعرفها جيدا، أي تأمين الدعم للفنانين والمساهمة في نجاح حركة التشكيل اللبناني المعاصر.
تعبير صامت

رؤوف رفاعي: ما أقدّمه في لوحاتي، هو انعكاس لتحوّلات المجتمع اللبناني وتطوّره
الصالة عند افتتاحها نهاية شهر يوليو الماضي، أي في عزّ فصل الصيف، الذي حل ثقيلا على نفوس اللبنانيين، الذين يعانون من انقطاع شبه متواصل للكهرباء، لم تعترف بالصيف موسما ميتا فنيا، لا يعرف إلاّ معارض جماعية قليلة.
وقدّمت صالة نادين فياض (مثل عدة صالات لبنانية صامدة أو عائدة إلى العرض) مجموعة كبيرة من أعمال الفنان التشكيلي اللبناني رؤوف رفاعي، ضمّت أعمالا أنجزها حديثا وأعمالا أخرى له اختارتها صاحبة الصالة بتأن ودراية.
ولعل اختيارها لتبنّي أعمال رفاعي وحصرية التعامل معه يحدث في الزمن المناسب. فكل مطّلع على أعمال الفنان اللبناني، لاسيما تلك التي بدأ بالعمل عليها منذ سنة 2008 تقريبا، هي
حول “دراويشه” المعاصرين جدا والعابقين بخصوصية شرق أوسطية و”لكنة” لبنانية حادة، إذا صحّ التعبير، عبّر من خلالها على الإنسان اللبناني أولا والعربي والشرق أوسطي ثانيا، وصولا إلى إنسان الشرق الأقصى، حيث قدّم سابقا دراويشه في معرض بمدينة سنغافورة بصيغة شرق آسيوية لم تخرج من مشرقيتها التي يستطيع أي لبناني أو عربي أن يتحاور معها وأن يجد فيها الكثير ممّا يعيشه في بيئته الضيقة.
فهل اليوم، ووسط جو عارم من السريالية الداكنة، من متكلم لبق أكثر من دراويش رفاعي وشخصياته المُشابهة لهم كـ”الأراجوز”؟
شخصيات قادرة للتعبير ودون تكلّف عن واقع الحال في لبنان خاصة وفي العالم بشكل عام، لاسيما بعد الجائحة وتفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية وتأثيرها المباشر على الطبيعة البشرية.
ويقدّم الفنان ذاته على الساحة الفنية، اليوم كما حاله دائما، وفق هذا المنطق، إذ يقول “الموضوع الأساسي الذي تتمحور حوله أعمالي هو الإنسانية، الإنسانية التي انبثقت عن تاريخ هائل من الحضارات والثقافات المتوارثة. ما أقدّمه هو مرآة لنا.. مرآة لتحوّلات مجتمعات الشرق الأوسط وتطوّرها”.
عالم ملون ومُرتج

الفن الذي يقدّمه رؤوف رفاعي ليس بفن كئيب ولا شخوصه تُعمّق من المآسي جاعلة الناظر إليها أكثر كآبة ممّا هو عليه، بل فنه هو من النوع الذي إما يعايش الأزمات بحكمة وإما يتبناها ليسخر منها، وإما يتعالى عليها بالحكمة والسخرية على السواء.
كما أن عالمه ملون ومُرتج وصاخب لا نقطة دم فيه، ولا جرح مفتوح ونازف بالمعنى المادي أو العضوي للكلمة. فأعماله التي بدأها في تلك الفترة من الزمن، أي منذ 2008، تلفحها رياح السخرية بألوان متناقضة وإن سطت على معظمها الألوان الترابية/ الخريفية، كما تقهقه شخوصه في لوحاته من خلال الخطوط القلقة التي تشكّلها وتقف أمام المُشاهد في أنصاف بورتريهات أو بورتريهات كاملة أو في حالة انغماس في عمل ما غالبا ما يكون بسيطا جدا.

الفن الذي يقدّمه رؤوف رفاعي ليس بفن كئيب، بل هو فن يعايش الأزمات اللبنانية بحكمة ويتبناها ليسخر منها
بورتريهات تحدّق في المُشاهد في العديد من اللوحات مفعمة بغواية طريفة، أو فرح مشبوه، أو جنون مبطن، أو دهشة وكذب، أو صدق فجّ تجلى في نظرات عيونها، أو “تُمسرح” الوحدة، والعزلة، أو العذوبة الهادئة، أو العنف تجاه الذات وتجاه الأخر.
والآخر هنا، ليس شرطا بأن يكون إنسانا، إذ يأتي في اللوحات أحيانا في شكل البيئة المحيطة المتجسّدة بخلفيات تعجّ بالذبذبات خطوطا وألوانا.
والناظر إلى أعمال رفاعي الأخيرة سيعثر على ميزة يُمكن اعتبارها جديدة في عالم الفنان، وهي الميل الشديد إلى التجريد. وليس المقصود بذلك اعتماده على مشحات لونية أو تركيب هندسي أو غير هندسي انطلاقا من فكرة أو من مشهد طبيعي أو غير طبيعي.
إنما المقصود، هو التفكّك الذي تتعرّض لها شخوصه “الدرويشية”، تفكّك يشي بتبدّد هيئاتها الخارجية وفي دخول اللون الأبيض إلى فضاء لوحاته لتحتضن هذا التبعثر وتستريح من صراعاتها وصخبها.
هل يكرّس الفنان بجديده “درويشه” كهيئة حصرية بصيغ متنوعة لكل البشر؟ والأهم من ذلك هل الدرويش بالصيغة اللبنانية سيتحمل تبدّد هيئته الخارجية دون أن تغيب ملامحه الإنسانية؟ سؤال يبشّر بأعمال مستقبلية مُنتظرة من الفنان.
والفنان رؤوف رفاعي من مواليد 1954، يعيش ويعمل في بيروت، حاصل على شهادة جامعية في الفن التزيني عام 1982، وفي العام 1995 حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية. له معارض فردية كثيرة ومشاركات فنية عديدة في معارض جماعية في لبنان وفرنسا واليابان والولايات المتحدة.

