الفلاسفة يحتاجون إلى المال

الفلاسفة مختلفون فيهم الزاهد والكريم وفيهم البخيل والمرابي.
السبت 2021/11/27
الفلاسفة ليسوا كائنات غريبة (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

نكاد لا نعرف عن الفلاسفة سوى أفكارِهم ونتفٍ من حياتهم، ولكننا لا نعلم علم اليقين شيئا عن حياتهم اليومية وعلاقتهم بالمال كمقوّم لا يستقيم لهم العيش من دونه، بوصفه القطب الذي تدور عليه رحى الدنيا بعبارة الجاحظ. ولا ندري هل هم زاهدون في الدنيا وفي ما في أيدي الناس، أم أنهم لا يختلفون في علاقتهم به بسائر البشر؟ وهل ثمة انسجام بين أفكارهم وسلوكهم في الحياة؟

يُبدي مؤرخو الفلسفة اهتمامهم بالمنطق أكثر مما يبدونه بالجانب اللوجستي، والحال أن المقولة اللاتينية تؤكد أن المرء يعيش أولا، ثم يتفلسف تاليا، أي أن الحياة مقدَّمة على الفكر، فلا فكر لمن كان بطنه خاويا، لأن همّ المرء حينئذ سيكون منصرفا وراء البحث عما يقيم أوده ويضمن بقاءه.

 ولكي يعيش، لا بد أن تتوافر له أسباب العيش. فكيف يعيش الفلاسفة؟ وهل كانوا أثرياء أم فقراء؟ هل يعيشون من كتبهم؟ هل يفاوضون الناشرين حول حقوق التأليف؟ هل كانوا يكسبون عيشهم من ريع العقارات أم من إرث تركه أسلافهم؟ وهل كانوا يمارسون أعمالا أخرى إلى جانب تأملاتهم الفلسفية؟ هل كانوا كرماء في تعاملهم مع غيرهم أم بخلاء؟ هل شملت تأملاتهم النظرية المال ودوره في الحياة؟ وهل كانت تلك التأملات النظرية منسجمة مع حياتهم الفعلية من جهة علاقتهم بالمال؟

أسئلة طرحها الفرنسي هنري دو مونفاليي في كتاب طريف عنوانه “محفظة نقود الفلاسفة”، واستكشف فيه نظرة الفلاسفة إلى المال وعلاقتهم به في حياتهم العملية.

ماذا نعرف عن الفلاسفة

طباع مختلفة

منذ غابر العصور كان الرأي السائد أن حياة الفيلسوف ينبغي أن تكون منسجمة مع كتاباته، ولكن الواقع غير ذلك، في أكثر من مثال. فقد عُرف أفلاطون مثلا بمعارضته الشديدة للسفسطائيين ما ترك انطباعا لدى اللاحقين بأن الفلسفة ممارسة مجانية خالصة لوجه الآلهة، ليس من غايتها سوى البحث عن الحقيقة وعلاج الروح.

 ولئن ظلت عبارة “سفسطة” مقترنة بغياب التفكير أو الدفاع عن القضايا التي لا تقبل الدفاع، فالسبب في رأي هنري دو مونفاليي ناجم عن موقف أفلاطون من السفسطائيين ونظرته إليهم، واتهامهم بتلقي مقابل عن الدروس التي كانوا يلقونها، ما يعني أن دروسه هو مجانية. والسؤال عندئذ: كيف كان أفلاطون يقيم أوده ويكسب رزقه؟

كان أفلاطون من أسرة أرستقراطية عريقة في أثينا تتحدر من صولون مؤسس الديمقراطية الأثينية، ولذلك لم يكن يحتاج إلى العمل لكسب قوته، فعلاقته بالعالم كانت علاقة تأمل حرّ متنصّل من كل ضغط مادي، ولكن ذلك لم يمنعه من طلب المال من الطاغية ديونيسيوس الثاني (397 – 343 ق م) حاكم سرقسطة، مقابل توليه مهمة مستشار في التصرف في المسائل المالية. في حين أن السفسطائيين الذين يتهمهم بحب المال، كانوا في الحقيقة من الطبقة الوسطى، وفي حاجة إلى كسب رزقهم بالتدريس على غرار أساتذة الفلسفة في عصرنا، الذين هم في ممارستهم اليومية أقرب إلى السفسطائيين من سقراط وأفلاطون.

غير أن التناقض يتبدى بجلاء أكبر عند الفيلسوف الرواقي سينيكا (1 – 65 م) ، فهو لا ينفك يعبر عن احتقاره للمال، قولا وكتابة، والدعوة إلى التقشف والزهد وحتى الفقر، والتشبه بديوجين الكلبي، ولكنه في الواقع كان من أثرى أثرياء عصره، حتى أن المؤرخ تاسيتوس أدرج ثروته في المنزلة الرابعة قياسا بثروات الرومان وقتها، وذكر أنه كان مرابيا شرسا، ولم يتردد في تهديد البروتون باستعمال العنف ضدهم لاسترداد مبلغ أقرضه إياهم مع الفوائد.

ولا يعني ذلك أن كل الفلاسفة ساروا سيرة سينيكا، فقد عُرف عن كانْت مثلا سخاء الكفّ، ومقته للبخل، وبالرغم من أنه كان يكسب رزقه من تلاميذه مباشرة، فقد اعتاد أن يصرف لخادمه مارتن لامبه فوق ما يستحق، حتى بعد التخلي عنه، إلى درجة أن الخادم عاش عيشة ميسورة أفضل بكثير من كانْت نفسه في نهاية حياته.

منذ القدم كان الرأي السائد أن حياة الفيلسوف ينبغي أن تكون منسجمة مع كتاباته، ولكن الواقع غير ذلك

كما كان صاحب “نقد الفكر المحض” ينفق على أخته وابنها، ويسمح للطالب فاسيانسكي، الذي سوف يصبح سكرتيره الخاص ومتعهد وصيته، بمتابعة دروسه مجّانا. أي أنه كان أخلاقيا في تعامله مع المال، يرى فيه وسيلة لا غاية، ومنسجما مع فلسفته نظريا وعمليا.

كذلك سارتر، فقد روي عنه أنه كان كريما بشكل لا يوصف، ولا يكتفي بدفع كل ما يتخلد بذمة أقربائه من فواتير ضرائب وإيجار وعيادات طبية، بل كان عادة ما يخرج دفتر شيكاته قبل أن يُطلب منه.

ومما روته سيمون دو بوفوار في مذكراتها أن فيلسوف الوجودية كان يوزع المال يمنة ويسرة حتى أنه لم يعد يجد ما يشتري به حذاء. ولئن فسر بعضهم ذلك السخاء برغبة سارتر في جعل الآخرين مدينين له بالجميل، فإن الكاتب يعتبر أن ذلك الكرم المفرط ناجم عن كرهه للبورجوازية التي كان ينتمي إليها، علاوة على فهم مخصوص للحرية، حريته هو وحرية البشر.

أهمية المال

سبينوزا كان يعيش من ريع العقارات
سبينوزا كان يعيش من ريع العقارات

إذا افترضنا أن الفيلسوف إنسان كسائر البشر لا يمكن أن يعيش حياته بغير مال، فهل يفكر في العائدات المالية حين يؤلف كتابا وينشره؟

 يقول سبينوزا إن “ثمة من يكتب ليقول شيئا، ومن يكتب لأجل أن يكتب”، أي أن ينشر ويبيع، ولكن سبينوزا كان يعيش من ريع العقارات ولا يحتاج إلى أن تدر عليه مؤلفاته مكاسب مالية، بينما عَرف ماركس الضيق خاصة حين كان في لندن، ولم يبع من كتابه “رأس المال” سوى ألف نسخة طيلة خمس سنوات، ولعل إدانته الظلم الاجتماعي والاستغلال والبؤس مصدره خواء جيبه وبطنه.

ففي خمسينات القرن التاسع عشر، واجه عدة صعوبات مادية ومالية أورد تفاصيلها في رسائله إلى إنجلز، حيث عانى هو وأسرته الجوع والمرض، بل إن أحد أبنائه مات بسبب نقص في التغذية، ولم تتحسن أوضاعه المادية والمعيشية إلا حين قبل أخيرا نصيبه من الميراث، بعد رفض دام سنين. وهو ما مكنه من الانكباب على تأليف عمله الذي سيكون إضافة هامة إلى الفكر الإنساني، ويخلق صراعات أيديولوجية لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.

وجملة القول إن الفلاسفة بشر قبل أن يكونوا مفكرين، يحتاجون إلى المال، عصب الحرب، ولا يمكن أن يستغنوا عنه، إن قليلا أو كثيرا، حتى لا تشغلهم أسباب الحياة عن تأملاتهم الفكرية. منهم من تنسجم أفكاره مع علاقته بالمال في الواقع، ومنهم من يناقض قوله فعله، فيعتبر أن المال هو “الوسيلة المطلقة”، كما بيّن جورج زيمل (1858 – 1918) في كتابه المرجعي “فسلفة المال” حيث رأى فيه “ظاهرة من أكثر الظواهر الدّالّة في عصرنا، غمرت ديناميته كل نظرية وكل ممارسة”.

13