الفساد يجبر الحكومة المصرية على تجميد نشاط البناء

مطاردة "مليارديرات الظل" في قطاع العقارات لحصر عمليات الاحتيال المتفاقمة على القانون.
الجمعة 2020/06/05
شواهد على فساد البلديات

أرغم الفساد المستشري في قطاع العقارات المصري الحكومة على تعليق نشاط البناء والتشييد في مشاريع الإسكان داخل المدن لمدة ستة أشهر لحصر عمليات الاحتيال وشبهات التهرب من القانون، على الرغم من أن القاهرة تراهن على التطوير العقاري لدفع اقتصادها بغية الخروج من مربع الركود الذي تسببت فيه جائحة كورونا.

 القاهرة - دخلت الحكومة المصرية في مواجهة جديدة مع انتشار الفساد في قطاع التشييد، وعلقت نشاط البناء داخل المدن، لمحاربة “مليارديرات الظل” في هذا القطاع الذين يعملون دون رقابة ويسهمون في تفشي الرشاوى في البلديات.

وأصبحت الأبراج السكنية الشاهقة التي يتجاوز ارتفاعها 15 طابقا في شوارع لا يتجاوز عرضها أربعة أمتار، شاهدة على فساد البلديات في محافظات مثل القاهرة والجيزة والإسكندرية، وزادت من عشوائية البناء، مع أن تراخيص البناء لا تتجاوز في معظم هذه المدن خمسة طوابق.

ودعت هذه الظاهرة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى إصدار توجيهات للحكومة بحل تلك الإشكالية ومكافحة الفساد في القطاع.

واستثنت قرارات تعليق البناء المجتمعات العمرانية الجديدة، والمشروعات القومية التي تنفذها البلاد حاليا، وأعلن وزير التنمية المحلية محمود شعراوي خطة تنفيذ القرار ترتكز على وقف تراخيص إقامة أعمال البناء أو توسعتها أو تعليتها أو تعديلها أو للمساكن الخاصة، وإيقاف استكمال أعمال البناء للمباني الجاري تنفيذها إلى حين التأكد من توافر الاشتراطات.

وأوضح أن الخطة تستهدف محافظات القاهرة الكبرى، وتشمل القاهرة والجيزة والقليوبية، وكذلك الإسكندرية وعواصم المحافظات والمدن ذات الكثافة السكانية العالية.

فتح الله فوزي: يجب دراسة الموقف ومحاسبة المخالفين دون تعطيل النشاط
فتح الله فوزي: يجب دراسة الموقف ومحاسبة المخالفين دون تعطيل النشاط

وأدي تفشي الفساد في القطاع إلى دخول المواطنين في مواجهات متكررة مع الحكومة، حيث يعج قطاع البناء الخاص للمساكن بقصص لا حصر لها، يقوم فيها بعض رجال الأعمال والمستثمرين وممارسي عمليات غسل الأموال ببناء أبراج شاهقة في المناطق العشوائية وبيعها للمواطنين.

وتتفاقم الأمور دائما بسبب تحرك الحكومة متأخرة خطوة لإصلاح الأوضاع، لكنها تصبح في مواجهة صعبة، تتمثل في خيارات محدودة تقضي بطرد أصحاب الوحدات السكنية لهدم الأبراج، أو توفير مساكن بديلة.

ويحرص السيسي على دعم القطاع الخاص بوصفه محركا للاقتصاد ويعلن ذلك صراحة في جميع المحافل، إلا أن تنفيذ الحكومة للقرار أفرز مشكلات للشركات الاستثمارية الكبرى المحلية والعربية، التي تعمل وفق تراخيص رسمية وتلتزم بقوانين البناء.

وقال رئيس لجنة التشييد والبناء في جمعية رجال الأعمال المصريين فتح الله فوزي لـ”العرب”، إن “من الحكمة دراسة الموقف سريعا ووقف الشركات والأفراد المخالفين لكود البناء والشروط والتراخيص”.

وأوضح أن الرئيس المصري يسعى لمواجهة الفاسدين وليس وقف نشاط الشركات العقارية التي تنفذ مشروعات داخل نطاق المدن.

ويتواكب القرار مع دخول قطاع التشييد والبناء في مرحلة ركود بسبب تفشي وباء كوفيد – 19، الذي دفع الطلب على الوحدات السكنية للتراجع، فضلا عن تباطؤ معدلات التنفيذ، نتيجة الالتزام بالإجراءات الاحترازية التي تنص على تشغيل نصف العمالة في المشروعات لضمان التباعد للوقاية من الإصابة.

ويرى عضو غرفة التطوير العقاري باتحاد الصناعات المصرية حسام الدين طه، أن للقرار تداعيات سلبية على شركات الاستثمار والتطوير العقاري، واصفا عمليات تنفيذه بأنها غير مدروسة.

وقال لـ”العرب” إن “القرار صدر في الربع الثاني من العام الجاري، والمعروف أن شركات الاستثمار العقاري تبدأ تسويق وبناء مشروعاتها في الربعين الثاني والثالث كل العام، فيما قضت الجائحة على فرص الانتعاش التي تحققها الشركات في الربع الثاني”.

وأنهى القرار آمال انتعاش شركات العقارات في الربع الثالث وحتى نهاية العام، حيث تنفذ شركات العقارات مشروعات جديدة داخل المدن الكبرى، ولن تستطيع بيع وحداتها إلى حين اتضاح الأمور، وما زاد الموقف سوءا إيقاف جميع المشروعات تحت الإنشاء أيضا، ما يربك خطط وميزانيات المطورين العقاريين.

وامتدت تداعيات الأزمة لتزيد من معاناة قطاع الأدوات الصحية، حيث وصفته الغرفة التجارية بالقاهرة تنفيذه بأنه عشوائي.

وأشار نائب رئيس شعبة الأدوات الصحية متى بشاي لـ”العرب”، إلى أن القرار يتواكب مع فصل الصيف الذي ينشط الطلب فيه على الأدوات الصحية ومستلزماتها لعمل تشطيبات الوحدات السكنية.

ولفت مطورون لـ”العرب”، إلى أن هناك عددا من الدوافع الخفية للقرار، منها رغبة الحكومة في دفع شركات العقارات لتوجيه استثماراتها نحو المدن الجديدة، لكن هذا التوجه يصلح لمحافظتي القاهرة والجيزة فقط، حيث تمتلكان ظهيرا صحراويا كبيرا للتوسع.

متى بشاي: قرار الحكومة ضربة للأعمال المرتبطة بقطاع التشييد
متى بشاي: قرار الحكومة ضربة للأعمال المرتبطة بقطاع التشييد

أما محافظة الإسكندرية فلا تمتلك هذه المقومات، وأثبت الواقع العملي أن الزحف الجديد للمباني الواقعة على ساحل البحر المتوسط، وتحديدا مدينة برج العرب غير مجدية.

ولا يفضل سكان الإسكندرية الانتقال للامتدادات الجديدة بالمحافظة، ومن الصعوبة فك ارتباطه بالبحر وبالمدينة، رغم ما تبذله شركات العقارات لتحفيزهم للانتقال خارج المدينة.

وأدى هذا الارتباط لتصدّر الإسكندرية ترتيب محافظات مصر في مخالفات البناء، وكذلك في المباني الآيلة للسقوط نتيجة مخالفات كود البناء وعدم الالتزام بشروط التراخيص.

ويمتلك رجال أعمال وسائل كثيرة للهروب من طائلة القانون عبر نظام محكم يطلق علية الـ”كاحول”، وهي فكرة قائمة على الدفع بشخص يتحمل جميع العقوبات الجنائية عن المشروع أو البرج السكني مقابل مبلغ يتم الاتفاق عليه من جانب “مليارديرات الظل”، ونشطت هذه الظاهرة على مدى عقود، وامتدت حاليا لجميع المحافظات.

ويدفع ضيق الحال والبطالة البعض من الأفراد للقيام بهذا الدور، والذي يتطور ليشمل مبالغ مالية كبيرة ومصروفات شهرية لعائلة الـ”كاحول” طوال فترة تأديته العقوبة في السجن، وبدأ يستخدم أيضا في عمليات الاحتيال خاصة على المغتربين.

ويروي سمير البسيوني، وهو مصري مقيم في ولاية نيوجيرسي الأميركية، قصته مع الـ”كاحول” قائلا “قمت بشراء شقة فارهة في الإسكندرية، وبعد فترة قصيرة اكتشفت أنني تعرضت للاحتيال من خلال صاحب العقار، وبعد البحث اكتشفت أنه كاحول”.

وقال لـ”العرب”، إن “هذه الظاهرة تفقد المصريين في الخارج مصداقية التعامل في عمليات البيع والشراء، رغم أنهم قوة كبيرة قادرة على تحريك سوق العقارات في مصر، ودفعه للنشاط مجددا”.

ويزيد تنفيذ قرار الحكومة بشكله الحالي من معاناة العمالة اليومية في هذه المشروعات ويفاقم أوضاعها الاجتماعية، فضلا عن تأخير عمليات تسليم الوحدات السكنية للحاجزين، ما يزيد الأمور سوءا للشركات.

ويمتلك “مليارديرات الظل” أدواتهم للهرب من المسؤولية، طالما أن هناك حاجة للسكن، وطالما وجد الـ”كاحول”، ولن تحل المشكلة، إلا إذا جددت الدماء في البلديات، وإنفاذ القانون دون استثناء لفئة أو محسوبية.

10