العلوم المبسطة في قوالب فنية تجتذب الشباب

شباب عرب يوظفون التقنيات التكنولوجية لتقديم محتوى المواد العلمية في قوالب بسيطة بعيدا عن الأساليب المعقدة ما جعلها محط اهتمام ومتابعة واسعين.
الأحد 2019/12/01
مجال مغر

استطاعت مجموعة من الشبان العرب، في دوائر منفصلة، تغيير النمط السائد عن تعقيد العلوم وعزلتها بإبداعات قدمت المادة العلمية في قوالب بسيطة، ووظفوا الإمكانيات التكنولوجية حتى بات للمادة العلمية جمهور عريض ينتظر حلقاتها بشغف، ويدخل في نقاشات حول العلم.

انجذب الشباب على نحو لافت إلى العلوم بالمصادفة خلال الأعوام الماضية، فالعلوم لم تكن هدفاً مستقبليا لغالبية الشبان تماشيا مع الصورة النمطية السائدة حول تعقيدها وعزلتها عن العامة واقتصارها على المتخصصين، بينما يحسب الفضل في خلق جمهور عريض يُقدر بالملايين، وفق مشاهدات مقاطع علمية في غضون ساعات قليلة من بثها، إلى شبان أمثال هاشم الغيلي وأحمد الغندور وإيمان الإمام، ممن يصنفون كـ”متواصلين علميين”.

ويقدم الثلاثة مادة علمية بتكتيكات مختلفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في مقاطع فيديو تتراوح مدتها من دقيقة إلى نحو النصف ساعة أحياناً، وتعتمد في الأساس على تبسيط المادة العلمية وتقديمها في قوالب فنية أو بشكل جاد، لكنه جذاب.

وبفضل تلك الإسهامات، اكتشف جمهور مواقع التواصل الاجتماعي توظيفات جديدة لهذه المنصات التي غلبت عليها الأنماط الترفيهية والاجتماعية، واتهمت بإهدار الوقت دون فائدة، وأصبح لمتابعي تلك البرامج دفاعات جديدة عن المنصات الأقرب إلى جيلهم، فدونها ما كانت “الجينات والفضاء والنظريات الفلسفية” مادة لأحاديث في غرف المحادثات والمقاهي.

يتوجه كل من أحمد الغندور وإيمان الإمام إلى الجمهور العربي بطرق مختلفة عن هاشم الغيلي الذي استطاع خلق نموذج مغاير كشاب انتقل من دولة تعاني الحرب مثل اليمن إلى مجتمع علمي متقدم مثل ألمانيا ليبرز ويحتل المرتبة الرابعة من حيث عدد المتابعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والمرتبة الأولى هناك في المحتوى العلمي.

الغيلي شاب يمني، تلقى دراسته الجامعية في باكستان في مجال التكنولوجيا الحيوية، وأكمل الدراسات العليا في ألمانيا في مجال الهندسة الجينية. ويقول لـ”العرب”، إنه بدأ ببث مقاطع فيديو باللغة الانكليزية في العام 2015 عن الغوص في آيسلندا، وهي منطقة تستطع فيها أن تلمس قارتين في آن، ليحقق المقطع 8 مليون مشاهدة.

قوالب جادة للعلم

الغيلي نموذج مغاير للشباب اليمني
الغيلي نموذج مغاير للشباب اليمني

حققت مقاطع الغيلي حتى الآن نحو 13 مليار مشاهدة، وتجاوز عدد متابعيه على موقع فيسبوك 32 مليون متابع، ويحتل العرب المرتبة السادسة بينهم، فيما يتقدمهم الأميركيون.

وأكد الشاب اليمني المقيم في ألمانيا لـ”العرب”، خلال زيارة للقاهرة للحديث حول تجربته في جمهرة العلوم والتحديات التي تواجه المجتمعات العربية، أن المادة التي يقدمها تعد الأكثر محافظة على طابعها العلمي وهي تعتمد قوالب جادة، ولا يظهر فيها عكس “الدحيح” و”الاسبتالية”، ما يجعله أقرب إلى الأفلام الوثائقية التي تقدّمها القنوات العلمية، لكنها أكثر جذباً لبساطتها وقصر مدتها.

وكشفت دعاء الدسوقي (29 عاماً) أنها قبل شهور تابعت بالمصادفة عبر مقطع شاركته إحدى صديقاتها؛ فيديو لـ”الدحيح” يتحدث عن العلاقات العاطفية السامة، وتقول “جذبني العنوان وشاهدت المادة ووجدتها تفسر بشكل منطقي بعض التصرفات التي عادة ما تثير تساؤلاتي وزميلاتي في أنماطنا السلوكية ولا نجد تفسيرا لها”.

وذكرت لـ”العرب” أنها شاركت الفيديو مع زملائها، واسترجعت الحلقات السابقة فانبهرت بالمادة المقدمة وأصبحت من جمهورها، ولا تعلم هل تتابعها كمادة ترفيهية لتضحك أم لتستفيد من معلوماتها، فالشيق أنها تقدم الاثنين في وجبة واحدة.

وأوضح الغيلي، أن الوصول بالمادة العلمية إلى عدد أكبر من المتابعين توجه عالمي يرتبط بأسلوب عرض المعلومة، فكلما كانت مبسطة وجذابة بصرياً استطاعت أن تصل لعدد أكبر من المتابعين.

ويتسم العلم بالتغير الدائم والتعقيد، غير أن الغيلي يؤكد أن مادته لا تنال من عمقه وتعقيده، وتتناسب مع طبيعة العلوم المتغيرة، بحيث يستطيع خلالها إطلاع المشاهد غير المتخصص على تلك التغييرات ووضعه في إطار الصورة.

بات العلماء اليوم أكثر ثقة في قدرة الجمهور على استيعاب أبحاثهم المعقدة حال تبسيطها عبر وسطاء في فيديوهات جذابة، وكذلك أضحى الجمهور أكثر شغفاً بتلك المواد

ولفت الشاب اليمني، إلى تطور لافت تشهده التجمعات العلمية التقليدية بين أوساط العلماء، ممن باتوا أكثر حرصاً على تسويق موادهم، موضحا “يتواصل معي عدد من العلماء ليطلعوني على آخر أبحاثهم ويقترحون عمل فيديو حولها”.

وتعكس إشارة الغيلي إلى التغيير المتبادل في وجهة النظر حول العلوم، حيث بات العلماء أكثر ثقة في قدرة الجمهور على استيعاب أبحاثهم المعقدة حال تبسيطها عبر وسطاء، وكذلك أضحى الجمهور أكثر شغفاً بتلك المواد.

ولا يقف التأثير عند حدود المتابعة، بل تنجح المقاطع التي تبث في تحقيق تغيرات في المعتقدات والأفعال، مثلاً حلقته حول “الأمصال واللقاحات”.

وتسود المجتمعات الغربية تخوفات ومعتقدات خاطئة عن المصل واللقاح بصورة تتجاوز حتى المجتمعات العربية، ما دفعه لعمل مقطع عن طبيعتها وطريقة عملها وتتبعه تعليقات كثيرة تتحدث عن تغير وجهة نظرهم عقب المشاهدة.

ولا تعكس كل الرسائل التي تصل تعليقات إيجابية، إذ يتعرض للتهديدات والعنصرية أحياناً، منها ما ربطه بالإرهاب لمجرد كونه عربيا، حيث قالت إحدى الرسائل “وماذا بعد ذلك تهتف الله أكبر وتفجر أي شيء”.

وتعد الشريحة الأكبر من المتابعين من الشباب، لكن الأمر لا يخلو من وجود أطفال بين المشاهدين، وما يمكن أن يحدثه ذلك من تغييرات في قراراتهم الدراسية والتخصصية وربطهم بالعلوم، كما تفيد بعض المقاطع في شرح مقرر دراسي ما فيستوعبه الطلاب على نحو أفضل، مثل المقطع الخاص بالخلية الجذعية.

وينظر الغيلي إلى الإنجاز الذي حققه بتواضع، قائلاً “هي مجموعة من المعايير يستطيع من يتابعها أن يحقق محتوى ناجحا يحظى بالمشاهدة في أي مجال كان، وحددها تحت اسم ‘معايير الفيديو الممتاز’ وهي: اختيار الموضوع بعناية، مدة الفيديو مناسبة لاستيعاب المستوى المعين للتركيز الذي يمكن أن يبذله الشخص على مواقع ترفيهية بالأساس مثل الفيسبوك، والموسيقى المختارة، والصور والفيديوهات المستخدمة”.

واعتمدت مقاطع الغيلي خلال الأعوام الماضية على لقطات تصويرية موجودة بالأساس على مواقع معيّنة باشتراكات سنوية، بحيث يصبح عمله وفريقه المكوّن من 4 أشخاص، يتمثل في اختيار الموضوع وكتابة المادة وتوظيف المقاطع الملائمة والموسيقى، ودمج كل ذلك، ثم نشر الفيديو، علماً بأنه ينشر مقطعين في اليوم الواحد حول مواضيع مختلفة.

ويسعى الشاب اليمني إلى تغيير نمطه خلال الفترة القادمة، حيث تعلم تصميم “الرسوم المتحركة” (أنيميشن) لتوظيف مقاطع ذات بصمات خاصة، كما سيظهر في المحتوى بنفسه، بعدما كان في الكواليس.

بساطة أم تفاهة

سحر الفيديوهات
سحر الفيديوهات

تتضمن الخطط القريبة لهاشم الغيلي التوجه أكثر نحو المجتمعات العربية، عبر ترجمة المحتوى، في خطوة مليئة بالتحديات، فلن ينتقي مواضيع بعينها ويتجنّب الأخرى خوفاً من الرفض المجتمعي لها، بل ينوي أن يخوض القضية بشكل كامل.

وهو سيترجم كل المحتوى، وما لا يتفق مع آراء وتوجهات مجتمع ما فليرفضه، وإن كانت الأمور لا تجري بتلك البساطة، فبعض المواضيع مجرد إثارتها قد تتبعه اتهامات بالكفر والإلحاد.

وكان اليوتيوبر أحمد الغندور مقدّم برنامج “الدحيح”، تعرض إلى حملة هجوم شديدة من الإسلاميين في يوليو الماضي، إثر تناول نظرية التطور في إحدى حلقات برنامجه، واتهم إثرها بنشر الإلحاد.

ويتوقع الغيلي أن تستغرق المجتمعات العربية وقتاً أطول للتحوّل إلى مجتمعات علمية، فالمحتوى المبسط يحدث تأثيراً لكنه بطيء جداً عربياً في ظل المعتقدات المتأصلة والعادات والتقاليد، فضلاً عن تساؤل هل يفكر ويدقق المتلقي أم يأخذ المقطع كترفيه وليس للتعلم، “ولو استفاد شخص واحد من المحتوى الذي أقدمه فأعتبره انتصارا، فقد يقود هذا الشخص الكثير من بعده”.

ومن المنتظر أن تستفيد المجتمعات العربية ببطء مما يتابعه الشباب من مادة علمية مبسطة عبر تلك النوعية من البرامج، هي إشكالية جديدة. ويرى مهاجمو ذلك المضمون، وبعضهم من دارسي المواد العملية وداخل الأوساط الأكاديمية، أن المحتوى المقدم “تهزيل وليس تبسيطا للعلوم واختزالا واضحا”.

ويذهب هؤلاء إلى أن المضمون المقدّم لم ينل فقط من رصانة العلوم وتقديمها في قالب راسخ، لكنه منح العقل معلومات سريعة يأخذها المتلقي كمسلّمات ويبني عليها آراءه ومعتقداته، ويشيرون إلى طبيعة المتلقي “العرضي” أو “مشاهد الصدفة” الذي لم يقصد بالأساس مشاهدة مادة علمية، وغير متوقع أن تستثيره معلومة ما للبحث في خلفياتها والآراء المؤيدة والمعارضة، ويصبح لدينا جيل من الشباب يظن أنه علمي لمصادفة معلومات ما وتصديقها.

وسُئلت الطبيبة ومقدمة برنامج “الاسبتالية” إيمان الإمام على هامش ندوة في معهد غوتة الشهر الماضي حول “الصحافة والعلوم” وكانت إحدى المتحدثات فيه حول تهزيل برامجهم للعلم من إحدى المتابعات، فردت قائلة “هذا اتهام باطل، بل على العكس تخليق مهتمين جدد، أنا أمنحك معلومة وأثير تفكيرك حول قضية علمية ما، وهذا يفترض أن يدفعك لتلقي المزيد والبحث إذا لقي الموضوع اهتمامك، فتلك البرامج لا تلغي الكتب والدراسات والطروحات، هي فقط تحاول تقديمها للعامة”.

قبل الإمام، رد الغندور على تلك الاتهامات عبر منشور على صفحة “الدحيح” على فيسبوك، قائلا “ناس كثيرون يقولون إن برنامج الدحيح سطحي، وردي هو الموافقة على ذلك”.

وفسر أنه يسير وفق مبدأ “أعطني معلومة سريعة عن الموضوع ربما نال إعجابي… تريد حديثا غير سطحي توجد مؤسسات أكاديمية ودراسات عليا في الجامعات ورسائل لنيل الدرجات العلمية المختلفة، ومحاضرات عبر منصات تعليمية رقمية وكتب متخصصة ومصادر أنشرها مع الفيديو وأدع المشاهدين بإلحاح لقراءتها”.

جمهور عرضي

المجتمعات العربية من المتوقع أن تستغرق وقتا أطول للتحول إلى مجتمعات علمية
المجتمعات العربية من المتوقع أن تستغرق وقتا أطول للتحول إلى مجتمعات علمية

أشار الغندور، الذي درس علم الأحياء في الجامعة الأميركية بالقاهرة، إلى مشقة العمل الذي يقدمه، “من الصعب بل قد يصل إلى المستحيل عرض كافة النظريات والأسباب والأدلة والعوامل ووجهات النظر والنقد في مقطع مدته 6 أو 7 دقائق”، منبهاً إلى الصعوبة التي يلاقيها في تحضير تلك المادة وصياغتها في شكل يحافظ على انتباه المشاهد، “دقائق عرض الحلقة قشور بالنسبة إلى تحضيرها”.

وبغض النظر عن جدلية حجم التأثير الذي يمكن أن يحدثه هؤلاء الشباب في مجتمع لم يتجاوز الأمية الألف بائية، وتنتشر في وجدانه الخرافة والأساطير، فإن خلق جمهور، ولو عرضيا، وبحيل الدراما والنكتة والمؤثرات البصرية، للعلوم تغيير لافت وإنجاز ولو استغرق 20 عاماً كي نجني ثماره، وفق تقدير الشاب الغيلي.

وتحولت تلك البرامج إلى استثمارات بالنسبة للشباب، وجنت لأصحابها رأس مال كبير وحولتهم إلى نجوم مجتمع بجهود شخصية بسيطة استطاعت جذب الانتباه، قبل أن تنتقل إلى خانة الاحترافية.

لكن قد يحدث تضليل من تلك النوعية من البرامج جلباً للربح، بحيث يتم تقديم مادة إعلانية كمادة علمية، وهو ما يجب رفضه.

ولفت مدير تحرير جريدة الأهرام المصرية، فتحي محمود، لـ”العرب”، إلى توظيفات سياسية يمكن أن تتم عبر تلك المواد التي يقدمها الشباب، على الرغم من تحفيزه الشديد لها، وتأكيده على ضرورة التوجه إلى ذلك المضمار وليس التعامل معه وفق الرؤية الأمنية.

وأضاف، أن قناة الجزيرة أصدرت منصة تفاعلية قامت بإنتاج برامج للمحتوى المنتشر عبر الإنترنت ممن حازوا الانتباه، ومثّل المحتوى العلمي جزءا كبيرا من المادة، ضمن محتويات أخرى كثيرة غير موجهة، لكنها وسط ذلك تدس برنامجا أو اثنين موجهين لأغراض معينة.

وأكد أن ثمة حوالي 20 مليون شاب مصري تُعتبر منصات التواصل الاجتماعي هي وسائل الإعلام الحقيقة بالنسبة لهم، متوقعا أن تنقرض البرامج الحوارية (توك شو) مستقبلاً ليسود نمط مقاطع الفيديو القصيرة المنتجة عبر المنصات الإلكترونية.

19