العصر الذهبي للحرب النفسية

الشائعة ووسائل الحرب النفسية الأخرى تسري جنبا إلى جنب مع أساليب القمع على الأرض التي تعالج بها احتجاجات الشباب في بغداد وباقي مدن العراق.
السبت 2019/11/23
الحرب النفسية جزء من أساليب قمع احتجاجات الشباب

تسير بموازاة الحرب الميدانية، حرب نفسية تشتغل مفرداتها في الغالب على مشاعر الناس، تغذي قلقهم ومخاوفهم، تثير حيرتهم وقد تهديهم لحظات فرح قصيرة أشبه بالسراب؛ إذ لا يستوي الفرح مع صورة الحرب المدمرة لكنها هكذا، هي مهنة الشائعة ولغة التهويل والتضخيم أو التهوين والتحقير التي تلعب على أوتارها أدوات الحرب النفسية، لذلك فقد تتجاوز في خطورتها ما يحدث من تصادم بين طرفين على أرض الحرب الميدانية، فالحرب النفسية أخطر من الأسلحة وأقل منها تكلفة فهي حرب أفكار تقوم على بث الفتن والأكاذيب لإضعاف المعنويات وتحطيم الإرادة.

يتحدث علماء النفس كثيرا عن التأثير النفسي العاصف الذي تحدثه الشائعة، خصوصا، باعتبارها أهم وسائل الحرب النفسية على الإطلاق مؤكدين على أن الإثارة العاطفية جزء ضروري من مناخ نشوء وانتشار الشائعة، فالأفراد القلقون ينشرون الشائعة بحماس أكبر بكثير من الآمنين والمستقرين.

وهذا أمر أكدته تجارب التاريخ ليس في حالات الحرب فحسب، بل حتى في أوقات الاضطرابات السياسية التي تمر بها الأوطان حيث تدفع بشعوبها إلى محاولة الانقلاب أو الانتفاض على الأوضاع المزرية التي تعانيها أو الاحتجاج والتظاهر على أمل تغيير الواقع وهو أضعف الإيمان.

عندما كنا نعيش في العالم القديم؛ عالم لا يعرف الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، عالم محصور في الشارع والمحلة والمدينة الصغيرة وجهاز التلفزيون الذي يبث من قناة واحدة خطابا لزجا ومملا لا تتغير نبرته، كانت الشائعة تسري مثل شرارة في طرف سلك مغمور بالبنزين، تكبر شرارة النار وتتفرع شظاياها بسرعة البرق فتضرب الأخضر واليابس في قلوبنا قبل عقولنا، تثير مخاوفنا وتحبط آمالنا فيصبح الغد مثل مارد بعيون نارية وأذرع زجاجية حافاتها سكاكين وشظايا حارقة، تتوعدنا حيث تميل رؤوسنا على وسائد الليل فتحول نومتنا إلى كوابيس تصل الليل بالنهار، لكن النار كانت تتلاشى عند نقطة ما هي لحظة الحقيقة، الحقيقة التي تقرر انتصار الموت أو استسلام الخوف.

أما النيران في أيامنا هذه فهي لا تخفت ولا تذبل طالما حافظت على شرارتها وقّادة متنمرة تزيد ولا تنقص، فالأحداث المتسارعة تنفخ في روحها ووسائط التقنية الحديثة تضخ وقودها وتقيم أودها لتحرق الأخضر واليابس ومعه الحقيقة، التي كانت ومازالت هي الضحية الأولى بامتياز.

من خلف شاشة الكمبيوتر، صرنا ممثلين كومبارس في مشاهد الحروب التي تجري على حافات المدن البعيدة، ثم تحولنا إلى رصيف طويل تدوس عليه أقدام أرتال عسكرية، نسمع هدير إطلاقات الغازات المسيلة للدموع ونتحسس لزوجة دم متظاهرين ومحتجين عزل، بل ونسمع تردد أنفاسهم الأخيرة. فوق هذا وذاك، مازالت آلة الكذب والتلفيق وقلب الحقائق تغذي مخاوفنا وتهز أسس ثقتنا وتحرق أفكارا خضر طالما آمنا بها.

تسري الشائعة ووسائل الحرب النفسية الأخرى جنبا إلى جنب مع أساليب القمع على الأرض التي تعالج بها احتجاجات الشباب في بغداد وباقي مدن العراق منذ أسابيع، وفضلا عن التصريحات المراوغة لأصحاب القرار الأول من السياسيين، فإن بعض الأخبار التي ترد من مصادر موثوقة أصابتها هي الأخرى لعنة الفوضى وباستثناء بعض الأصوات التي نجحت في إيصال صداها من أرض (المعركة) إلى العالم الخارجي، فإن الجميع أصبح يروّج لأكاذيب تستند معظمها للإشاعات المغرضة وتستخدم أكثر الوسائل تحضرا لقلب الحقائق وزعزعة الثقة بين الناس، فيما عمدت الحكومة لاستخدام وسيلة قطع الإنترنت لأيام متواصلة لحجب الصورة كاملة عن أنظار العالم.

معظم الشائعات تصب في تخويف المتظاهرين، ينشر معظمها في وسائل التواصل الاجتماعي، في أوقات عودة الإنترنت يتحدث بعضها عن تحضيرات جديدة وإجراءات أكثر ردعا لتفريق المتظاهرين وكأن ما يجري على أرض الواقع هو عكس ذلك، فضلا عن أن الغازات المسيلة للدموع والقنابل الدخانية أصبحت تتلقى دعما معنويا من قنابل صوتية وظيفتها بث الذعر بين صفوف الناس!

شائعات على الأرض وشائعات في بعض وسائل الإعلام المحلية التي تصور الدنيا في العراق وكأنها (ربيع والجو بديع).. قلب  حقائق وتشويه وقائع، صور مفبركة ومعالجة بتقنيات (فوتوشوب) ما أنزل الله بها من سلطان وأخبار قديمة تنشر على خلفية صور جديدة.. وبعد كل هذا، يقف المجتمع الدولي برمته مخاطبا الشباب المسحوقين بالظلم، بضرورة توثيق الأحداث بالتواريخ والبيّنات وتعزيز مصداقيتها بالصور لتمريرها للعدالة الأممية. عن أي عدالة يتحدثون؟

21