العراق فضاء سردي في الرواية الأجنبية

ينجذب الأدب في العادة إلى الأماكن الثرية بتاريخها وحكاياتها حيث يمكن أن يخلق على أرضها شخصيات وأحداثا متنوعة ومتداخلة وحمّالة أفكار. ولعب العراق بإرثه التاريخي الكبير وبواقعه المتحرك والمزدحم بالصراعات أكثر الأمكنة العربية إغراء للروائيين الغربيين للكتابة عنه، وهو ما يؤكده عدد هام من الأعمال الروائية التي كان العراق وتحديدا بغداد مسرحا لها.
اتخذ العديد من كتّاب الرواية، في أوروبا والأميركيتين الشمالية والجنوبية، العراق فضاء سرديا تدور فيه أحداث بعض رواياتهم. وقد ركّز أغلبهم على العراق المعاصر، وخاصة على فترة الغزو الأميركي له عام 2003 وما شهده من مآس ودماء ورعب، وما تلاه من فظائع الإرهاب والقهر والاعتقال والنزوح والهجرة.
وذهب بعضهم إلى عصور قديمة؛ العباسي تحديدا، ودمج بعضهم الآخر بين الحاضر وحكايات من الماضي. وثمة مَن اعتمد الخيال العلمي في رؤية كابوسية لمستقبل البلد. وتوزعت شخصيات هذه الروايات على عراقيين وباحثين ومغامرين أجانب وجنود الاحتلال. من بين هذه الروايات، التي تُرجم بعضها إلى العربية، “جريمة في العراق” و“جاؤوا إلى بغداد” لأغاثا كريستي، “الحديقة الخربة” للمكسيكي خورخي فولبي، “بريد بغداد” للتشيلي خوسيه ميجيل باراس، “أوليس البغدادي” للفرنسي – النرويجي إيريك مانويل شميت، “مراَة الخليفة” للبريطاني أندرو كيليان، وأربع روايات لكتّاب أميركيين هي “الطيور الصفراء” لكيفن باورز، “دماء شابة” لمات جالاجر، “إباحية الحرب” لروي سكرانتون، و“التخصص” لستيفن بريسفيلد.
لكن من المؤسف أن هذا الموضوع لم ينل الاهتمام الذي يستحقه من طرف الدارسين والنقاد العراقيين، فلم أقع خلال بحثي إلا على دراسة أكاديمية واحدة بعنوان “العراق في الرواية الغربية الحديثة: أنتلجنسيا التحرر وسوسيولوجيا القيود” للباحث مسار غازي شناوة، بيد أن نصها غير متوفر في شبكة الإنترنيت، لذا لم أتمكن من الاطلاع عليها. في حين كُتبت مقالات عديدة قرأ فيها أصحابها هذه الروايات فُرادى.
تُعدّ رواية أغاثا كريستي “جريمة في ميزوبوتاميا”، الصادرة عام 1936، والمترجمة إلى العربية بعنوان “جـريـمـة في الـعـراق”، بكر الروايات الأجنبية التي تجري أحداثها في العراق، ترويها مـمـرضـة اسمها آمي لـذرن قدمت إلى بـغـداد صحبة امـرأة إنـجـلـيـزيـة. وبـعـد انـتـهـاء مـهـمـتـهـا بقيت لتـعـتـني بسيدة إنـجـلـيـزيـة أخـرى هي لـويـز زوجـة عـالـم الآثـار الـسّـويـدي الـدكـتـور إريـك لايـنـدر، الذي جـاء لـلإشـراف عـلى عمليات التـنـقـيـب الأثـريـة التي تـقـوم بـهـا بـعـثـة مـن جـامـعـة بـتـسـتـاون في مـوقـع مـديـنـة آشـوريـة كـبـيـرة اسـمـه “تـل يـاريـمـجـه”.
وقد عرفت الـمـمرضة، بـعد لقائها بـلويز، أنّـهـا تـزوّجـت الـدّكـتـور لايـندر مـنذ عامـيـن فـقـط، وكـانـت قـد تـزوجت قبل 15 سـنة بـألـماني كان يـعـمل لحساب الأميركان، لكنّه كان في الـحقـيقة جـاسوسا لـحـسـاب ألـمانـيا. ولم يدم زواجهما طويلا، فـقد ألـقي الـقـبـض عـلى زوجـها وحـكم عـليه بـالإعدام، إلا أنه تمكن من الـهرب خلال حادث اصـطدام الـقطار الذي كان يـنـقـلـه، في حين اعـتـقـد الـمـحـقـقـون أنّـه قُـتـل في الـحادث. وبعـد أسـبـوع مـن وصـول الـمـمرضـة وجد الدكـتور لايـندر زوجته ميّتة في غرفـتها.
وإثر اسـتـجواب المحقق الـبلجيكي هـرقل بـواروت جميع الـحاضـريـن توصل إلى أن لويـز لايـندر ومس جونـسـن قـتـلهما الدّكـتور لايـندر، الذي هو في الـحقيقة زوج لويز الأوّل الألـماني، ولم يـقتل في حادث اصطـدام الـقطار، بل وجد بين الـضّـحايا جـثـمان عالم آثـار سـويدي هو إريـك لايـندر، وأخذ بـطاقة هويته. وبعد أن مرّت 15 سـنة، ادّعى أنّـه عـالـم الآثـار وتزوّج مـن جديد بـزوجـته الأولى الّـتي لم تـتـعـرف عـلـيه، لكنه اكـتـشف أنها تـحـبّ زمـيله كاري، فقرر قـتـلها.
روايات ما قبل الاحتلال
تقوم رواية “بريد بغداد”، التي ترجمها عن الإسبانية صالح علماني، على مجموعة رسائل متبادلة بين رسام تشيلي متميز اسمه هويركيو، قُتل أو اختفت آثاره في القاهرة، وبين عمّ زوجته البروفيسور البلجيكي في الأدب، الذي يعيش على مقربة من براغ.
تزوج الرسام من إيفا بيفانوفا ابنة أخ البروفيسور عندما كان طالبا في تشيكوسلوفاكيا، وصحبها إلى بغداد بعد حصولها على عمل تدريسي في أحد المعاهد العراقية. وتتحدث الرسائل، التي يعثر عليها رئيس تحرير صحيفة تشيلية في أحد أدراج مكتبه ويسلمها إلى خوسية ميغيل باراس، عن بغداد والعراق ومغامرات الرسام ووصفه الأماكن والحوادث السياسية خلال عهد الزعيم عبدالكريم قاسم، وعشية انقلاب 8 فبراير 1963 الذي أسقط حكمه.
وقد نسج باراس حبكة الرواية في ثلاثة خطوط، تدور أحداثها بين سانتياغو وبرلين وبراغ وبغداد، معتمدا تقنية الحوار والجدل بين خط وآخر، وأسلوب موغل في السخرية يجعل القارئ يقهقه، كتعويض ضروري عن ردة الفعل العصبية التي يستلزمها الموقف، كما يرى الروائي كريم كطافة، رغم هذه السخرية تطال أمورا حميمة في بعض العادات والتقاليد العراقية.
هذا من جانب، ومن جانب آخر جاء تناول الرواية لتفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية والمعيشية في بغداد الستينات مخيبا للآمال، لأن الكاتب يصف المدينة وكأنها مدينة صحراوية في القرن التاسع عشر.
روايات ما بعد الاحتلال
تحكي رواية “الحديقة الخربة” لخورخي فولبي، عبر مسارين سرديين متوازيين قصتين مختلفتين جدا، تتداخل فيهما أحداث العراق بعد الاحتلال الأميركي مع أحداث المنفى الذي عاشه الروائي قبل عودته إلى المكسيك، راثيا حال البلدين معا، من خلال المقارنة بين أوضاعهما المتدهورة، وكيف أن ثمة عصابات تفتك بالبشر والمدن، وتجعل الكره شعارها اليومي كأنه وقودها ومحرّكها، كما يقول الناقد هيثم حسين في قراءته للرواية.
يتمثل المسار السردي الأول بقصة المرأة الشابة ليلى، وهي ابنة طبيب من الموصل، تزوجت من مهندس شاب وأنجبت منه طفلة، ثم أتت الحرب وقضت على حياتها وأحلامها وأسرتها وشردتها. ومثلها تعرض أهل الزوج إلى الإرهاب المتفشي والمقنع بشعارات عديدة.
ويتمثّل المسار الثاني بشخصية الراوي المكسيكي، الذي يشبه الكاتب الحقيقي، وهو يربط، في تنقله المتخيَّل بين العراق والمكسيك، بين حياته وماضيه ومصيره وحياة ليلى وماضيها ومصيرها، ويصف حالتها وهي مثخنة بجراحها، تائهة في الصحراء، تحيط بها الأشباح والضباع من كلّ صوب، في ترميز واضح إلى العراق نفسه. ويستعير فولبي، في سرده لقصة ليلى، حكاية الصياد مع العفريت من حكايات ألف ليلة وليلة، حيث يرافق الجنّي ليلى في هذيانها، ويشكّل انعكاسا للمرارة والقسوة، وخدعة الذات لتناسي آلامها، واختلاق خيالات تعينها على عبور متاهة الحرب ومستنقع القتل والعنف، أو يكون “شبح الحرب” مثلما يصفه.
يلعب فولبي في هذه الرواية، حسب رأي الروائية عبير إسبر، “بعيدا عن الإرث السردي لأدب أميركا اللاتينية، مازجا بين روحية الشرق في عمقها الأكثر حضورا (العراق) وعمق المأساة المكسيكية، بكارتيلاتها، حرّها، ديمقراطيتها المتعثرة، أبنيتها المتمادية في فوضاها، نظامها السياسي الممرغ بالكوكايين، وجثث تسقط في الطرقات من دون صاحب أو مطالب بثأر للأرواح المهدورة”.
يسجل كيفن باورز، في روايته الأولى “الطيور الصفراء”، أحداثا ووقائع يومية عاشها شخصيا أثناء خدمته العسكرية ضمن قوات الاحتلال في مدينة “تلعفر” بمحافظة نينوى خلال الأعوام 2004 – 2005، لكن الرواية ليست تسجيلية بالكامل، ولا سيرة ذاتية طبق الأصل، بل إنها عمل سردي يمزج بين أحداث وشخصيات متخيلة وشخصيات وأحداث حقيقية عايشها المؤلف.
يسلّط الكاتب الضوء على صدمة ما بعد الحرب التي أصابت كثيرا من الجنود الأميركيين، عبر حكاية الجندي جون بارتل، العائد من العراق بعد شهور عديدة أمضاها هناك، ليدرك من خلال ما عايشه من أحداث، أن للموت لونا، وأن ما كان يحارب من أجله ليس إلا وهما كبيرا، وكيف تحول الحرب الجندي الوديع المسالم إلى وحش قاتل، ويسعى، بعد فقدانه لصديقه ميرفي، الأصغر منه سنا، والذي تبتلعه مياه دجلة، إلى التخلص من كوابيسه، واستعادة إنسانيته وأحاسيسه التي فقدها في الحرب.
وقد كيّف المخرج الفرنسي ألكسندر مورس هذه الرواية في فيلم يحمل العنوان نفسه، استخدم فيه تقنية السرد المقلوب، أو الاستعادي، بأن يبدأ من النهاية ثم يخوض في تفاصيل القصص التي يحملها الجنود في عقولهم، وتروي بشاعة الحرب، وخيالاتها وشيئا من الصدمة في ما بعدها.