الضاد حبيسة المؤتمرات الميّتة والتصورات القاصرة لفقهائها

في اليوم العالمي للغة العربية.. التكنولوجيا والرقمنة جناحا النهوض والتحديث.
الخميس 2019/12/19
تدعيم المحتوى العربي على الإنترنت يحتاج لجهد مضاعف

يوافق الـ18 من ديسمبر من كل عام اليوم العالمي للغة العربية، ويتجه المتحدثون بالعربية إلى الاحتفاء بلغتهم والاحتفال بجمالياتها، حروفا وأصواتا، وإسهامات حضارية. وتحرص العديد من المؤسسات والهيئات والمختصين على الاحتفال بالمناسبة، غير أن التعامل الاجتراري مع اللغة بوصفها كيانا مقدّسا خالدا، لا كائنا حيّا قد يمرض ويشيخ ويموت إنما يفاقم أزمة العربية كلغة باتت بعيدة عن الحياة المعيشية واستعمالاتها المباشرة من جهة، وعن مضمار المعارف والعلوم الحديثة وأبجديات التكنولوجيا والحوسبة والحقول الرقمية والإبداعات الإلكترونية. هذه الهوة المتسعة تفطنت لها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” لتطالب باتخاذ إجراءات تسمح للعربية بمواكبة رهانات الحاضر المعرفي.

تزامنًا مع الاحتفالات المتعددة في مصر وسائر الأرجاء باليوم العالمي للغة العربية، الموافق لـ18 من ديسمبر، تحسست الضاد رأسها إشفاقا على أحوالها المتراجعة وحصارها المفروض عليها من أهلها، خصوصًا من أولئك الذين يوصفون بأنهم حُماتها ودُعاة تطويرها وتجديدها، وهم في الحقيقة صُنّاع قيودها وأسباب جمودها.

لا تنهض اللغة العربية من كبوتها الحالية بتكرار “إنّ الذي ملأ اللغاتِ محاسنا.. جعل الجمال وسره في الضاد”، و”أنا البحر في أحشائه الدر كامن”، ولا بالادعاء أن “الأرض بتتكلم عربي”، فمنظومة التحديث باتت معقدة تتطلب عملًا شاقًّا ممنهجًا، وسيولة تنظيرية، ومرونة تطبيقية، وممارسات جريئة ثورية، ليس من أبجدياتها بطبيعة الحال تنصيب أوصياء أبديين على خيمة اللغة المصون، واستهلاك الطاقة والوقت في حلقات مفرغة وإقامة مؤتمرات ميّتة وبيانات منبرية محنطة.

في حين أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” التقطت أبرز النجوم الهادية إلى المسار الصحيح، الذي على العربية أن تسلكه، وذلك بتخصيصها الذكاء الاصطناعي والحوسبة الرقمية والتكنولوجيا كمحاور لدراسات ونقاشات وموائد مستديرة في باريس، بمشاركة باحثين ومختصين ولغويين ومبدعين ومثقفين، أملاً في مواكبة رهانات الحاضر المعرفي، فإن الواقع المصري، شأنه شأن نظيره العربي، قد مضى هذا العام في مسالكه التقليدية المألوفة بخصوص اللغة وأزماتها وتحدياتها الراهنة.

الندوات الروتينية

انحسرت الجهود بمصر، في الذكرى السادسة والأربعين لقرار اعتماد العربية لغة رسمية سادسة في الأمم المتحدة، حول الاحتفالات باليوم العالمي للعربية كمناسبة لا يجوز تفويتها دون إقامة مآدب الكلام، وتكرار الحشد المؤسسي للدفاع عن هيبة اللغة ودرء الشائعات المغرضة التي تنال منها ومن صلاحيتها لكل زمان ومكان، وتدبيج البرامج المنمقة في الصالونات والحجرات المغلقة حول اللغة بوصفها كيانًا مقدّسًا خالدًا، لا كائنًا حيًّا قد يمرض ويشيخ ويموت.

منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" التقطت أبرز النجوم الهادية إلى المسار الصحيح، الذي على العربية أن تسلكه، وهي الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والحوسبة الرقمية والتكنولوجيا لمواكبة رهانات الحاضر المعرفي
منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" التقطت أبرز النجوم الهادية إلى المسار الصحيح، الذي على العربية أن تسلكه، وهي الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والحوسبة الرقمية والتكنولوجيا لمواكبة رهانات الحاضر المعرفي

من تلك الصور الاجترارية التي سجلتها كرنفالات ديسمبر الجاري في القاهرة من أجل مناصرة لغة الضاد، التي ينطقها أكثر من أربعمئة مليون فرد وتمثل خامسة لغات العالم انتشارًا، احتفالات كل من مجمع اللغة العربية، ودار الكتب والوثائق القومية ومكتبة الإسكندرية، والمركز القومي للترجمة، وغيرها، التي جاءت استهلاكية، بعيدة عن قضايا اللغة العصرية الفعلية، التي أشارت اليونسكو إلى بعضها، ويراها أيّ متابع منصف للمشهد.

توقفت هذه الندوات الشعاراتية البروتوكولية والأمسيات الروتينية الضحلة عند الأمور المكرورة نفسها التي أثيرت على نحو مشابه في الأعوام الماضية، ومنها: خطورة الإسرائيليات على اللسان العربي، الإعلام العربي بين الدعم والهدم، العربية والتعريب ومنظومة التعليم، العربية وتحقيق التراث، اللغة وأزمة الهوية، أخطاء اللغة الشائعة، حماية اللغة: التحديات، الوسائل، الأهداف، تأثير العاميات في الواقع الثقافي والإبداعي، إلى جانب تكريم الشخصيات الحريصة على تمكين اللغة العربية، وإقامة معارض الخط العربي والزخارف، وعقد الأمسيات الشعرية لناظمي القصائد الطنّانة، التي ليس فيها من الشعرية غير طلاء البيان الزائف.

في مثل هذا البؤس المحيط بها من كل جانب، بسبب التصورات القاصرة لفقهائها، تتفاقم أزمات العربية كلغة باتت بعيدة عن الحياة المعيشة واستعمالاتها المباشرة من جهة، وعن مضمار المعارف والعلوم الحديثة وأبجديات التكنولوجيا والحوسبة والحقول الرقمية والإبداعات الإلكترونية وسائر إفرازات الأقلام المعاصرة من جهة أخرى.

بالإضافة إلى محدودية المحتوى العربي في مجمله على الإنترنت، من الناحية الكمية، إذ لا يتجاوز ثلاثة بالمئة فقط من المحتوى العالمي، فإنه يتسم بالضعف الكيفي، وتسوده السطحية والفقر والأحادية وعدم التنوع، والجزء الأكبر منه لا يعدو كونه من الثرثرة والبيانات المضللة والمعلومات غير الصحيحة، إلى جانب تكرارات القص واللصق، بسبب نقل المواقع المواد ذاتها من بعضها البعض، بما يعني غياب الأصالة والابتكار، وإهدار حقوق الملكية الفكرية.

ومما يكاد يصل بهذه الأزمات إلى طرق مسدودة، أن مُلاك القرار والقائمين على الشؤون الإدارية والإجرائية من هؤلاء المحافظين على عِرض اللغة داخل أروقة المجامع اللغوية والجامعات والمؤسسات الثقافية الرسمية ومن الأدباء والإعلاميين والمثقفين التقليديين؛ هم في حدّ أنفسهم أبرز العوائق التي تحول دون مواكبة العربية تحولات اللغة الشعبية في الشارع، على ألسنة العاديين الذين سبقوا إلى استكشاف مرونة اللغة وحيويتها وطواعيتها.

على جانب آخر، فإن هؤلاء الفقهاء المقولبين يقفون دائمًا موقف المتشكك إزاء إرهاصات العاميات المحلية في الفنون والآداب ومجالات الإبداع، وضد دعوات تقعيد العامية لغة موازية للكتابة، كالتي أطلقها سلامة موسى ولويس عوض وقاسم أمين، وكذلك فإن هؤلاء “الحُرّاس” يناهضون الظواهر التجريبية في الآداب واللغويات عمومًا، وعلى رأسها “الرقمية”.

ومضات استثنائية

جهود لنشر اللغة أكثر
جهود لنشر اللغة أكثر

يتجلى بوضوح أن الأدب الإلكتروني، على وجه الخصوص، هو الأجدر بأن يكون منصة انطلاق ضرورية لفضاءات تطوير اللغة ونشرها على نطاق واسع داخليًّا وخارجيًّا، وتدعيم المحتوى العربي على الإنترنت، لكنه لا يزال يمضي للأسف بخطوات ضعيفة متعثرة، لا تجاري لهاث عصر الرقمية والحوسبة.

إن الجهود المبذولة في ميدان دعم الأدب الإلكتروني، وتعزيز المحتوى العربي الرقمي، وربط اللغة ببرمجيات الذكاء الاصطناعي، وما إلى ذلك، لا تزال ذات طابع فردي متناثر، وبعيدة عن الجهات والمؤسسات التي يُفترض أن هذه الأمور الجوهرية من اختصاصها.

وتبدو هذه الجهود بمثابة ومضات استثنائية كاشفة في المناخ العام الحالك، ومنها بضعة مؤتمرات للأدب الإلكتروني العربي، وأطروحات ودراسات وتطبيقات من جانب “اتحاد كتاب الإنترنت العرب”، ومشروع الأدب الإلكتروني العربي في جامعة روتشستر للتكنولوجيا بنيويورك، بإشراف ساندي بالدوين، الأستاذ بالجامعة، والباحثة المصرية ريهام حسني، بالجامعة نفسها، وغيرها من الشذرات القليلة، غير الكافية لتحقيق المراد المأمول.

إذا كان الأدب مرآة للواقع، يعكس مستجدات الساحة وحركة البشر، بما في ذلك الثورة المعلوماتية والحاضر الرقمي المهيمن، فإنه الأجدر بقيادة قاطرة تحديث اللغة، باعتبار أنها استعمال واقعي متجدد وأبجدية للكتابة في الوقت نفسه، وعلى الإبداع الإلكتروني المسؤولية الأكبر في تمرير لغة العصر بسمتها الجديد.

ولا يزال الطريق طويلًا أمام سيادة الأدب الإلكتروني وتنمية المحتوى العربي، إلى أن يتم الالتفات إلى كافة المشكلات القائمة، وإيجاد حلول لها، ومنها: تقاعس المؤسسات الرسمية المعنية عن القيام بدورها، وضعف القدرات التقنية ومستوى الترجمة لدى أصحاب المبادرات الفردية من المبدعين واللغويين والمترجمين، وتهافت الميزانيات المخصصة لأبحاث الحوسبة والرقمنة اللغوية.

وعلى الرغم من هذه العثرات الكثيرة، وغيرها، فإنه يجري التعامل سنويًّا مع اليوم العالمي للغة العربية باعتباره عيدا قوميّا وفتحا مبينا، دون التفكير الجاد في حاضر الضاد ومستقبلها.

21