الصعيد في دراما رمضان المصرية.. صورة ثابتة لا تتغيّر

تحافظ الدراما المصرية على الصورة النمطية للصعيد، والمقصود سكان المحافظات الواقعة جنوب القاهرة، كما لو كانت دستورا لا يجب تغييره، وتواصل تقديم قاطنيه كأناس قساة غلاظ يقتلون بدم بارد، ونفعيين تسيطر عليهم لهفة الربح المالي، بصرف النظر عن حرمته الدينية.
القاهرة - لا تغادر مسلسلات “الجنوب” المصري ثالوثا مقدّسا أضلاعه تجارة الآثار والمخدرات والثأر مع سلطة زعيم يحكم قبضته على أماكن معزولة ولا يعتد بقوة القانون، ويتعامل مع السلطات الرسمية بمنطق “لا أريد منك عسلا.. فلا تؤذيني بلدغاتك”.
ويظل الصعيد في المسلسلات المصرية مُسلحا كأن أبناءه يرضعون بارودا بدلا من الحليب، فتحية استقبال الزائر إطلاق النار، والأفراح معارك مصغرة تعلو فيها أصوات الأسلحة الآلية على زغاريد النساء، والخلافات تحل بلغة الذخائر دون عقاب للقاتل.
لا تخلو رحلات الصعود الدرامية لرجل الأعمال في تلك النوعية من نشاط مشبوه في الظل، أو حياتين إحداهما في بلدته بجلبابه الشعبي وربطة رأسه وعصاه الخشبية وغلظته وقسوته، والأخرى في المدينة بزوجة على الموضة تناسب الزي الرسمي والحياة الفاخرة، وقدر كبير من اللين والطيبة.
وفي رمضان المرتقب تحضر الدراما الصعيدية بقوة عبر عدة مسلسلات، على رأسها “نسل الأغراب” من خلال صراع لا يعرف حدودا بين غفران الغريب (أحمد السقا) وعساف الغريب (أمير كرارة)، ويكفي مقطعه الدعائي لإثبات صورة راسخة، حيث يشمل كلمات مثل “الدم.. النار.. الثأر”.
ويعرض مسلسل “موسى” لمحمد رمضان الذي رغم أبعاده السياسية الرحبة بقصة عن مكافحة الاحتلال الإنجليزي شبيهة بالبطل الشعبي أدهم الشرقاوي، لم يبتعد عن الآفة المعتادة للجنوب بالثأر من الخصوم وحياة مطاريد الجبل، وكم من العنف غير المبرّر الذي وصل إلى قتل أنثى حصان عربي أصيل ضربا بالرصاص في الرأس لسماحها بـ”البطل المارق” باعتلاء ظهرها.
يجمع بين “نسل الأغراب” و”موسى” تصوير الرجل بأنه لا يخشى سلطة ولا يأبه بمعاناة الأحباء، بل وتماديا في منحه صفة إرهاب أشدّ المفترسات ضراوة ليتبادل أمير كرارة القبل مع أسد بالغ الشراسة، ويجعل محمد رمضان من تمساح نيلي ضخم أريكة يسند عليها رأسه.
تنميط لا ينتهي
لا تمثل تجربتا السقا ورمضان في الدراما الصعيدية جديدا، فكلاهما قدّمها من قبل، الأول في “ولد الغلابة”، المدرس الفقير الذي يصبح أسطورة في تصنيع أنماط المخدرات الجديدة، والثاني في “نسر الصعيد” عن ضابط شرطة يدخل صراعا مع رجل أعمال جنى ثروته من الجريمة، ويعيش كل منهما علاقة حب من طرفين أو طرف واحد مع ابنة العم وفتاة أخرى من المدينة.
تكثّف الفضائيات المصرية عرض المقاطع الدعائية للعملين في وقت تعرض إحداها مسلسل “مملكة الجبل” لعمرو سعد تحت عنوان جديد “مملكة الدبابير” في سلوك غريب هدفه إعادة تقديم عمل قديم نسبيا لم يلق حظه من الترويج.
وفي “مملكة الجبل” أو “الدبابير” تتجمّع أوزار التنميط بمكان واحد، بقصة ثلاث عائلات تقطن واحة بالصحراء وتخوض صراعا مستمرا، فلكل منها منطقة نفوذ وحياة مستقلة، فلا زواج من خارج العائلة، ولا راد لحكم كبيرها، ولا مراجع لقراره، حتى لو كانت خاطئة أو أوصلتها إلى مشارف المجاعة.
وفي المسلسل تتاجر العائلات الثلاث في الآثار ورغم مكاسبها المالية الكبيرة، تقرّر نقل نشاطها إلى زراعة المخدرات التي يتم بيعها للأجانب أيضا، وتعيش مناوشات بين بعضها البعض، تستخدم فيها أسلحة تبدأ من البنادق الآلية، وحتى قذائف “آر.بي.جي” والقنابل اليدوية.
وتحافظ غالبية المسلسلات على ثيمة ثابتة بنظرة دونية للنساء شبيهة بقطعة أثاث، يتم حجزها لمشتر معروف منذ الولادة، فلا استشارة لرأيهنّ في الزواج، أو استطلاع لمقترحاتهنّ عن أمور الحياة، ودورهنّ محصور فقط في خدمة الذكور، وانتظار قدومهم في صمت، مهما طالت سنوات البعاد غير المفهومة.
ولم يستطع كتاب الدراما الصعيدية حتى الآن التحرّر من تجربة ثرية للكاتب محمد صفاء عامر، رائد ذلك النمط من الدراما، بتقديم صورة ثابتة لا تتبدّل بمرور الزمن، تجعل حياتهم مليئة بالصراعات والاقتتال والزعامة والثأر، ومطاريد الجبال وتبتعد عن الواقع بمشكلاته الحياتية الآنية، باستثناء تضليل أعماله الأخيرة ببعض الجوانب السياسية التي جاءت على الهامش، مثل الانتقال السياسي في مصر وصعود وسقوط جماعة الإخوان.
كتب عامر أشهر المسلسلات الصعيدية بداية من “ذئاب الجبل” مرورا بـ”الضوء الشارد” و”حدائق الشيطان” و”مملكة إبليس”، وغالبيتها تدور عن الرجل القوي المتحكم في عائلته أو القاسي الذي لا يهمه سوى مصلحته فقط، وعوالم مطاريد الجبال من احتضان المارقين وتوفير الملجأ للمظلومين أحيانا حتى يعودوا إلى الانتقام وبدء حياة جديدة.
وظلت تلك الوجبة بوابة للنجاح والتسويق لفترة طويلة، فالحياة القاسية الخشنة المجرّدة من المشاعر تجذب شريحة جمهور يعتريها الضجر من المدينة والروتين اليومي، وأخرى من الأجيال الجديدة تتلقف تلك الصورة باعتبارها واقعا لمجتمع لم يرونه، وطالما يوجد زبائن فلن تتغيّر تلك النظرية مهما ملأ سكان الصعيد الدنيا صخبا من ابتعاد الدراما عن واقعهم.
وتتغيّر السنوات ولا تتغيّر فكرة الدراما، ففي مسلسل “طايع” لعمرو يوسف الذي قدّم في البداية بطلا موهوبا ينتظره مستقبل جيد في الطب تحوّل إلى هروب من الثأر وتجارة الآثار، وفي “بت (بنت) القبايل” لحنان مطاوع الذي يعود إلى تاريخ بعيد نسبيا، لم يغادر منطقة الصراع على السلطة والمطاريد رغم ارتباط القصة بفكرة إمرأة تمارس الفروسية والتحطيب، ومسلسل “سلسال الدم” لرياض الخولي وعبلة كامل، ما هو إلاّ نسخه ممتدة الأجزاء لصراع ثأري بين رجل وامرأة.
الكتابة عن بعد

أكّد الناقد الفني محمد قناوي، الذي ينتمي إلى محافظة سوهاج بجنوب مصر، أن كتاب الدراما الصعيدية حاليا ليسوا من الجنوب أساسا، ويقدّمون قصصا متماشية مع ما شاهدوه مسبقا من أعمال درامية وليس الواقع، وهو ما جعلهم متعلقين بعالم المخدرات والسلاح والآثار والثأر كعناصر أساسية للتشويق.
ولم تعد اللهجة الصعيدية كما تقدّمها الدراما بعدما امتزجت بلغة الحضر، ولم يعد نساء الجنوب ملفوفات بالأغطية السوداء، بعدما طرقت الموضة أبواب دواليبهم، بل إن الزي في أحراش الصعيد قريب تماما من المدن وربما طريقة الحديث أيضا.
وتجمع المسلسلات الصعيدية فكرة تكاد تكون ثابتة باستغلال الحب لتوليد الصراع بين العائلات المتناحرة، فلابد من وقوع أبناء الأعداء الألداء في حب بعضهم البعض، وربما الوقوع في فخّ العلاقة غير المشروعة التي تنتهي بقتل أحد حاملي علاقة الحب الطاهرة.
واشتكى فنان مثل محمد رياض، الذي له تجربة مع الأدوار الصعيدية من تلك النمطية، مؤكّدا أن قضايا التهريب والآثار لم تعد تشغل الصعيد بشكل كبير بل المشكلات الحياتية كالبطالة والفقر والتغيرات التي يعيشونها مع الانفتاح الذي خلفته مواقع التواصل الاجتماعي، فالصعيد ليس مرتعا للثأر والأسلحة.
وما زال الرجل الصعيدي في المسلسلات الدرامية يقدّم في صورتين إما الذكي الشقيّ المطارد من السلطات، أو الساذج الذي يفقد صوابه بمجرد رؤية ذوات الشعر الذهبي، مثل “همام” (محمد نجاتي) في “مملكة الجبل” الذي تسبّب في احتلال عصابات أجنبية لمسقط رأسه وكشف أسرار مملكته المعزولة، بمجرد انكشافه على حياة الغربيين.
وكان مسلسل “دهشة” ليحيى الفخراني و”الرحايا” لنور الشريف من ضمن التجارب القليلة التي غيرت السائد، فالأول قدّم تعريبا لمسرحية وليم شكسبير الشهيرة “الملك لير” تعتمد على فكرة جحود البنات بعد نيلهم ميراثهم لدرجة طرد أبيهم، والثاني اقترب من قصة النبي يوسف بعد قتل مجموعة من الأبناء أخيهم الصغير بسبب حب والده المفرط له.
وأوضح قناوي لـ”العرب”، أن الصعيد لم يتم تقديمه بالشكل الحقيقي، إلاّ في “الرحايا” بصراع عائلي يتعلق بحب الأب لأبنائه، مع مصدر ثراء مشروع له بعمله في نشاط المحاجر، على عكس جميع الأعمال الأخرى حتى التي يغلب عليها بعض الرومانسية مثل “الفرار من الحب” و”الضوء الشارد” الذي تناول الصعيد من الشكل الخارجي فقط وليس الحياة الفعلية.
وربما يكون “مملكة الدبابير” الوحيد الذي قدّم صورة مغايرة لتنميط “فحولة” الرجل الصعيدي. بعدما قدّمه من خلال شخصيتين، أحدهما قتل زوجته الأولى لخيانتها له وطلق الثانية بعد زفافه لعجزه الجنسي، والشخصية الأخرى كانت لا تخجل من مطالبة كل معارفها بتوفير منشطات تحسنّ صورتها أمام زوجته التي كانت ابنة عمه أيضا.
وأضاف الناقد الفني أن الرجل الصعيدي ليس خشنا كما يتم تصويره، كذلك المرأة التي تعتبر المتحكمة في كل شيء بداية من منزلها وحتى ما يفكّر فيه الرجال دون أن تظهر في الصورة حيث تغيّرت وضعيتها تماما بعد تنامي تعليمها.