"السينما النظيفة".. فتنة فنية نائمة أشعلها يوسف الشريف

مفهوم "السينما النظيفة" يثير تخوّفا من تغوّل الجهات الرقابية التي تمارس المقص على الأعمال الحبلى بالمعاني بذريعة مخالفتها للسينما المتوافقة مع الأخلاق.
الثلاثاء 2020/07/07
يوسف الشريف يرفض لمس النساء أثناء التصوير

لا يزال مصطلح السينما النظيفة يثير الجدل في مصر بين أنصار حرية الفن والمدافعين عن الذوق العام، رغم مرور عقود على ظهوره في موجة أفلام كوميدية خفيفة غيّرت قناعات المنتجين ودفعتهم لحصد إيرادات وجوائز دون الاعتماد على المشاهد الساخنة.

القاهرة- أعاد الفنان المصري يوسف الشريف العلاقة الملتبسة بين ما يسمى بـ“الفن النظيف” وحرية التعبير إلى الواجهة مجدّدا بحديثه عن اشتراطات أخلاقية يضعها في عقود أعماله، يطلب فيها عدم تقديم مشاهد ساخنة وترك مساحات بينه وبين الممثلات لتصبح تصريحاته مثار جدل فني واجتماعي لم يهدأ في مصر حتى الآن.

يشبه مصطلح “السينما النظيفة” نارا كامنة تحت الرماد تنتظر من يفتح لها ثقب هواء للعودة إلى الاشتعال، فمؤيدوه ومعارضوه كثر في الوسط الفني وبين الجمهور التقليدي، وكل فريق يملك مسارات تحمي قناعاته، فمنهم من يرى عدم مشروعية وضع الفن ضمن تصنيفات الأخلاق الضيقة والمتقلبة، ويدافع آخرون عن حماية الذائقة العامة للجماهير من الخدش أو الانتهاك.

ولا يعتبر يوسف الشريف الفنان الوحيد الذي يعبّر عن رفضه للمشاهد الساخنة في الأعمال السينمائية، لكن حديثه كان الأكثر إثارة للجدل منذ التبشير بـ”سينما اللاقبلات” التي تشكّلت ملامحها منذ ثلاثة عقود بسبب طريقته الصريحة التي لا تقبل الالتباس والمغلفة برداء ديني وأخلاقي، على عكس غيره من الممثلين الذين يطبقون المبدأ ذاته ولا يجاهرون بالإفصاح عن شروطهم أو إملاءاتهم على المخرجين.

ونشأت “السينما النظيفة” بمصر في التسعينات كثورة على موجات الجرأة غير المعهودة لجيليّ السبعينات والثمانينات ودخول نمط من الإنتاج الخاص حينها للسوق أغلبه من منتفعي سياسة الانفتاح الاقتصادي الذين استحدثوا “سينما المقاولات” بمنتجين مهنتهم الأصلية بناء العقارات، واعُتبرت حينها اللقطات الساخنة محورا أساسيا وليس مكمّلا في تقليد ظاهري فجّ للسينما الغربية حينها.

واكتسب المفهوم زخما مع موجات مدّ لأعمال كوميدية خفيفة لمحمد هنيدي وأحمد حلمي وأحمد مكي وهاني رمزي تصدّرت إيرادات التذاكر دون تضمينها لقطة واحدة خارجة، ما جعلها صالحة للمشاهدة العائلية بأسرها دون الحاجة لوضع تصنيفات عمرية لها تحت شعار “فن لكل أفراد الأسرة دون خجل أو قلق”.

طابع تجاري

ياسمين عبدالعزيز: "السينما النظيفة" مصطلح باطل منذ نشأته ويخنق الإبداع
ياسمين عبدالعزيز: "السينما النظيفة" مصطلح باطل منذ نشأته ويخنق الإبداع

قال الناقد الفني طارق الشناوي، الذي كان من أشدّ المتحفظين على تصريحات يوسف الشريف، إن السينما النظيفة توصيف خادع ليس له علاقة بالفن، فالأفلام لا يجب تقسيمها إلاّ لنوعين، أحدهما عمل مكتمل يتضمن إبداعا فنيا، أو ضعيف وخالٍ من مقومات الإبداع ويفتقر للصناعة الجيدة على مستوى القصة والإخراج.

ووفقا لكتاب “سنوات الضحك في السينما المصرية” الذي أصدره الشناوي، فإن فترة انتعاش ما يسمى بـ”السينما النظيفة” في الفترة ما بين عامي 1997 و2007 احتوت على الكثير من الضحك لكنها لم تحمل قيمة فنية عالية، ومالت دائما نحو التنميط فمحمد هنيدي هو القصير، وعلاء ولي الدين هو السمين، وهاني رمزي هو الطويل.

وأضاف، لـ“العرب”، أن مفهوم السينما النظيفة يجعل معيار الحكم على العمل أخلاقيا من ناحية اشتماله على مشاهد عاطفية أم لا، ويلغي العناصر الأساسية لصناعة السينما الجيدة، والأمر ذاته ينطبق على تقديم سينما خالية من الإبداع وتعتمد على العري فقط، فالمعيار الأساسي للحكم يجب أن يكون الجودة فقط.

وتنامت “أعمال اللاقبلات” على مدار السنوات الماضية لاعتبارات تجارية صرفة، مع اندثار دور السينما التقليدية العادية لصالح صالات العرض الخاصة في السلاسل التجارية الكبرى التي توفّر خدمات عروض الأفلام السينمائية بجانب محال تناول الطعام والتسوّق العائلي فوفّرت مضمونا ترفيهيا يناسب الجميع، ويمكن هضمه بسهولة مع كميات المقرمشات التي يتناولها مشاهدو أعمال الصالات الضيقة.

ويثير المفهوم تخوّفا من تغوّل الجهات الرقابية التي تقدّم نفسها كحامية للذوق العام من ممارسة المقص على الأعمال الحبلى بالمعاني والإسقاطات السياسية بذريعة تضمنها مشاهد قبلات، أو مخالفتها للسينما المتوافقة مع الأخلاق، وفتح فرصة أكبر لأخرى تخلو من المضمون الفني تماما بحجة أنها “محتشمة”.

ولا يخفي المخرج داود عبدالسيد، تخوّفه من تلك النقطة بالذات، فيقول “السينما النظيفة، جعلت المواطن يعشق الرقابة المسبقة على عقله وعينيه ويصبح رقيبا مكملا لدور هيئة المصنفات الفنية، ورغم ذلك لم تنجح تلك الأعمال في الوصول لأهدافها المعلنة، فالمجتمع لم يتغيّر للأفضل على مستوى الأخلاق، وكل ما حقّقته هو تحاشي قطاع من الفنانات القيام بأدوار جريئة خوفا من سهام النقد والتجريح”.

القبلات الفنية

طارق الشناوي: السينما النظيفة توصيف خادع ليس له علاقة بالفن
طارق الشناوي: السينما النظيفة توصيف خادع ليس له علاقة بالفن

يحمل مصطلح “السينما النظيفة” نوعا من الوصم الأخلاقي لفئة ليست بالقليلة من الفنانات اللاّتي تؤدينها تحت سيادة مبدأ أنها مبرّرة وضرورية فنيا، ومن هنا كان الهجوم المتكرّر على ممثلة مثل سلوى خطاب ترى أن “السينما ساءت أحوالها منذ توقف القبلات الساخنة”، وعلا غانم التي تؤكّد أن “الفن النظيف” يخنق الإبداع، وياسمين عبدالعزيز، حيث اعتبرته مصطلحا باطلا تماما منذ نشأته.

ولا تخلو نشأة السينما النظيفة من مآرب سياسية، فنموها تماشى مع جيل الدعاة الجدد ذوي الملابس العصرية المغايرة للشيوخ التقليديين الذين دعمت الدولة المصرية خطابهم الحياتي المنفتح لمواجهة شيوخ التيارات السلفية وشجّعت على ظهورهم في وسائل الإعلام، وأصبحوا نجوما جذبوا شريحة لا بأس بها من الفنانين ولاعبي الكرة، حضروا دروسهم الدينية وشكلوا معهم شبكة صداقة واسعة.

وروّجت بعض وسائل الإعلام للسينما النظيفة أيضا بشكل غير مباشر بحشر المصطلح في اللقاءات التلفزيونية التي تضم نجوما كبارا، فباتت لا تخلو من أسئلة ثابتة مثل: ما شعورك حينما تتبادل أو تتبادلين قبلة؟ وهل تشبه القبلة الحقيقة أم تختلف؟ وهل قدّمت ما يثير الخجل فنيا وترغب أو ترغبين في منع عرضه ولو بثروتك كاملة؟

وكانت غالبية ردود الفنانين والفنانات في تلك النوعية من اللقاءات متوافقة مع الجمهور الشرقي المتحفظ، ليؤكّد الفنان ماجد المصري ندمه على لقطات جريئة قدّمها في بداية حياته الفنية، ويرجع الزعيم عادل إمام رفضه التام لعمل بناته في التمثيل إلى “القبلات الساخنة”، وقالت سهير البابلي إن الحجاب الذي ارتدته يفرض عليها ألاّ تقدّم تلامسا حتى لو كان له مبرّر فني وأعادت التذكير بالرعيل الأول من الممثلين، مثل إسماعيل ياسين الذي لم يقدّم مشهدا حميميا في جميع أعماله.

ووفقا للعديد من النقاد، حملت الأعمال الموازية التي تم عرضها احتجاجا على تغوّل “الفن النظيف” على السينما نتائج عكسية بسبب حالة الغضب التي انتابت قطاعات من المخرجين حيال تقييد حريتهم في توصيل أفكارهم وتقلّص نفوذهم لصالح الممثلين، خاصة أفلام خالد يوسف مثل “كلمني شكرا” و”حين ميسرة” و”دكان شحاتة” التي تحمل تركيزا كبيرا على الجنس ما خلق صورة ذهنية سلبية عن قاطني العشوائيات بمصر، كما لو كانوا من البشر البدائيين، لا يعرفون قيما أو أخلاقا وتحرّكهم الرغبة البوهيمية فقط.

"السينما النظيفة" مالت دائما نحو التنميط فمحمد هنيدي هو القصير، وعلاء ولي الدين هو السمين، وهاني رمزي هو الطويل

ويفرض عدد كبير من الفنانين حاليا على المخرجين استخدام “الترميز” في تجسيد المشاهد الساخنة، فحسب وجهة نظرهم لا يجب أن تتضمّن الأعمال أي قبلات أو أحضان أو شبق جنسي، فإغلاق باب الشقة على زوجين بملابس الزفاف يكفي لمعرفة ما يحدث بعدها دون شرح، ومشاعر الحب يمكن توصيلها بحركات الأعين والوجه، ومشاهد الاغتصاب يمكن توصيلها بلقطة لامرأة منكسرة تلملم ملابسها في خوف.

ويصعب عزل الجدل المشتعل حول المشاهد الساخنة بمحاولة مداعبة الطابع المحافظ للجمهور المصري وحالة الانفصام الأخلاقي للكثير من المشاهدين والفنانين على حد سواء، فالمدافعون عن الفن النظيف يهجرون أفلام السينما المستقلة لصالح الأعمال التجارية المليئة بالرقص والعري.

15