الرواية المضادة للمهاجرين في تونس

لنزع فتيل "قنبلة الأفارقة الموقوتة" لا بد من توفير الحماية للمهاجرين وأن تقوم الدولة بإدارة الملف بنفسها طبق إستراتيجية واضحة المعالم تسهل لهم العمل والإقامة وتجريم الانتهاكات في حقهم أو ترحيلهم.
الثلاثاء 2023/07/11
الكل معني بما يحصل في تونس بين المواطنين والمهاجرين

“غلّو علينا الخبزة”، هذه القولة الدارجة، التي تعبر عن التذمر من ارتفاع الأسعار وتحليقها، تبدو واحدا من التفاصيل الكثيرة، التي بنتها فئة من التونسيين، بغض النظر إن كانت تلك الفئة محقة في ذلك أم لا، على أنقاض معاناة المهاجرين الأفارقة، حتى إن أغلب هؤلاء باتوا مقتنعين بأن الحياة صارت غير مستقرة – ما يحدث في صفاقس نموذج – في بلد كانوا يعتبرونه مجرد نقطة عبور إلى “جنة أوروبا” الموعودة بعيدا عن التيار القائل إنهم نواة للتوطين مستقبلا وأداة لتغيير التركيبة الديموغرافية للدولة وفق مخطط غربي مسموم.

في قلب الرواية المضادة لهؤلاء المهاجرين، الذين لا نعرف تعدادهم بالضبط، حتى السلطة نفسها لا تعرف عددهم بدقة، وهو ما نلمسه من تضارب تصريحات المسؤولين، يتم الحديث عن مشاركتهم التونسيين الخبز والزيت وأشياء أخرى. فهل هذا صحيح؟ وإذا كان كذلك فهل ما يحصلون عليه من دنانير تكفيهم كي يخزنوا مؤونتهم؟ وهنا يبرز التساؤل الأهم بشأن الظروف الحقيقية لهؤلاء المهاجرين لنجد أنفسنا أمام تساؤل آخر حول من يستغل من؟

خلال ظروف اقتصادية واجتماعية سابقة للحاضر، وطيلة سنوات، وأقصد هنا قبل عام 2011، لم نكن كتونسيين نستشعر ظاهرة توافد المهاجرين بطرق غير قانونية من دول جنوب الصحراء، ولم تجلب المسألة كثيرا من الانتباه أو اللغط، كما أنها لم تُقابل أصلا بالرفض على المستوى الشعبي بحكم انتمائنا الأفريقي وطبيعة التونسي المضيافة والمرحبة بأي كان، وأيضا كنا نعتبر تواجدهم بيننا مؤقتا وأن غايتهم الأساسية هي العبور إلى الضفة الشمالية من المتوسط.

◙ دعك من حقوق الإنسان والعنصرية ضد الأفارقة ومنطق من الغالب ومن المغلوب في معركة لا رابح فيها ولنتفق على أن لا فرق بين تقاسم المحن أثناء الشدائد وتقاسم الرخاء أثناء السلم

مع تراكم الأزمات، التي كانت نتاج عوامل داخلية وأخرى خارجية، بدأ يتحول تدريجيا منسوب المهاجرين الأجانب من جنوب الصحراء إلى ما يشابه الزحف غير المسبوق، خاصة في ظل صعوبة العبور إلى أوروبا رغم الكثير من المحاولات الناجحة. وبفعل ذلك تحولت غاياتهم من الذهاب إلى إيطاليا أو ألمانيا أو فرنسا أو.. إلى الإقامة في تونس بصفة غير شرعية ومن دون وثائق إقامة ولا حتى أوراق ثبوت للهوية والبلد الأم.

لندع التبريرات والمغالطات الشائعة من قبيل لماذا لم تتعامل تونس مع الليبيين الفارين من الحرب الأهلية في بلدهم، كما يحصل اليوم مع المهاجرين من جنوب الصحراء، جانبا، ولنتحدث بالوقائع انطلاقا من كون أن الجميع في سلة الأزمات العالمية القديمة – الجديدة التي لن تنتهي.

لقد كانت تونس في عز أزمتها بعد الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، الحاضنة الأولى لتدفق الليبيين ومعهم الآلاف من المقيمين الأفارقة في ليبيا. الدولة التونسية كانت رغم الظرف الصعب حريصة على تقاسم المحنة مع الأخوة الأشقاء سواء كانوا عربا أو أفارقة. ربما كانت نزعة الكرم الملتصقة بالتونسي، هي التي حركت الجميع لتفادي كارثة. فمثلا التونسيون في الجنوب استقبلوا جحافل اللاجئين في ذلك الوقت دون كلل أو ملل أو أي حسابات تذكر بدليل أن الكثيرين أخلوا بيوتهم لتقيم فيها الأسر الليبية.

كان لجوء الليبيين مفهوما كما يحصل في أي بلد يتفجر فيه نزاع مسلح، فهم لم يأتوا “حارقين” ولم يأتوا لكي يستوطنوا في تونس إلى الأبد، رغم أن من بينهم من لديه صلات مصاهرة وأعمال، ولم يقيموا مجتمعات منعزلة عن التونسيين، ولم يرفضوا التأقلم كما هو الحال مع الجنوب صحراويين. هكذا تُتداول التفسيرات حول الغضب من استفحال غزو الأفارقة الذين بالكاد يتدبرون قوت يومهم، سواء كان ذلك عبر العمل بالأجر اليومي، أو عبر طرق أخرى لا يمكن القول إنها في خانة القنوات الرسمية، لكن المهم أنها ليست ممنوعة في المطلق.

بفعل المشاكل، التي أصبح التونسي غارقا فيها مع موجة الغلاء والنقص في المواد الأساسية تبدل الوضع حتى أصبحنا نشك في تونس التي نعرفها، وأنا أحد المقتنعين بذلك. وبالتالي صار تواجد الأفارقة جنوب الصحراء بأعداد تتجاوز الآلاف إن لم نقل عشرات الآلاف بكل الولايات تقريبا وبوتيرة متسارعة وبهويات غير مسجلة لدى مصالح الداخلية وبلا إحصاء لعددهم، مزعجا، وارتسمت معه هواجس بأن تتحول الظاهرة إلى مرض اقتصادي وديموغرافي واجتماعي جديد قد يفجر المزيد من الأزمات. هكذا ترى فئة من السكان الوضع.

دعك من حقوق الإنسان والعنصرية ضد الأفارقة ذوي البشرة السمراء، ومنطق من هو الغالب ومن هو المغلوب في معركة لا رابح فيها، ولنتفق على أنه لا فرق بين تقاسم المحن أثناء الشدائد وتقاسم الرخاء أثناء السلم، فيفترض أنهما أمران متلازمان كوجهي العملة الواحدة، ولذا فإن إلقاء بعض التونسيين اللوم على الظروف المعيشية الخانقة والتنفيس عن الضغوط بطرد المهاجرين يبدو اتجاها غير عقلاني. بالمثل يحتاج الأفارقة إلى فهم طبيعة الدولة التي لجأوا إليها واحترام قوانينها. ويبدو أن أغلبهم كذلك.

إن الحل لنزع فتيل “قنبلة الأفارقة الموقوتة”، هو توفير الحماية للمهاجرين وإبعاد ملفهم عن التعاطي الشعبي، وأن تقوم الدولة بإدارة هذا الملف الشائك بنفسها طبق إستراتيجية واضحة المعالم تسهل الترخيص لهم بالعمل والإقامة وتجريم الانتهاكات في حقهم أو ترحيلهم. صحيح لدينا ترسانة من القوانين في هذا الباب لكن تفعيلها خجول ويكاد يكون ظرفيا وهنا نتحدث عن سوء إدارة الدولة.

سيكون التطبيق أسهل مع الحالات الإنسانية والفاقدة لأي سند عائلي، من ذلك الأطفال والنساء المرافقات لأطفالهن، ثم يليهم طالبو اللجوء من بين الفارين من مناطق النزاع المسلح لأن تغذية العنف والكراهية ضد المهاجرين، وتصنيفهم على أساس أنهم يشكلون خطرا على البلاد، لا توقف تدفقهم، بل على العكس يسيء إلى بلادنا.

الكل معني بما يحصل في تونس بين المواطنين والمهاجرين، إذ يبدو العنف مقصودا لأن استغلال حالة الاحتقان الاقتصادي يؤدي حتما إلى احتقان اجتماعي، وهذا الاحتقان تدفع ثمنه الطبقات الفقيرة والمهمشة والأفارقة أيضا. وهذا الوضع سيؤدي بالتأكيد إلى كارثة لا أحد يتخيل حجم الخسائر البشرية، التي ستكون نتيجتها إن استمر الأمر لفترة أطول. لن يختلف الأمر بين ولاية وأخرى أو منطقة وأخرى لأن جذور القضية واحدة بينما مفتاح الحل تائه بين السلطة والشعب. فمتى تستعيد تونس رشدها؟

8