الخلافات السياسية تسبب القطيعة بين أفراد الأسر في تونس

تحول الاختلاف في الرأي إلى عراك كلامي وانفعال يقود إلى الإحباط والتشنج.
الاثنين 2021/08/02
الاختلاف في الرأي يفسد للود قضية

كشفت الأحداث الأخيرة التي شهدتها تونس تباينا في المواقف تجاوزت آثاره انقسام المجتمع التونسي إلى شقين، لتطال العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة. ويرى خبراء علم الاجتماع أن حالة من الانقسام الحاد والاستقطاب المرضي أصبحت السمة السائدة بين الأفراد في المجتمع التونسي.

لم تؤثر القرارات الرئاسية المتخذة يوم 25 يوليو 2021 على المجتمع التونسي فحسب، (حيث قسمته إلى قسمين، أحدهما مع الإجراءات المتخذة والآخر ضدها)، بل أثّرت حتى على العلاقة داخل أفراد الأسرة الواحدة من ذوي الانتماءات الفكرية المختلفة.

وقالت ألفة سعدالله القاطنة بمحافظة الكاف شمال غرب البلاد إن أخاها أستاذ التعليم الثانوي المعروف بانتمائه للحركة الإسلامية لم يبد ارتياحا للإجراءات المتخذة ما أثّر على علاقته بأسرته الموسعة.

وأضافت أن أخاها الذي تعوّد على زيارتهم يوميا بحكم سكنه بجوار منزل العائلة أبدى نوعا من القطيعة تجاههم في الأيام الأولى التي تلت القرار، وذلك لأنه لن يجد منهم من يشاركه رفضه خصوصا وأن أغلب أفراد الأسرة لم يكونوا يشاركونه انتماءاته الفكرية.

وأشارت سعدالله إلى أنهم لم يستطيعوا التعبير عن فرحتهم العارمة بالقرارات الرئاسية التي انتظروها طويلا لأنهم كانوا يخشون من غضبه. وتابعت “حتى بعد أن زارنا كنا مرتبكين. غيّرنا الحديث في الأمور السياسية حتى لا نشعره بالخيبة”.

وكان الرئيسي التونسي قيس سعيد قد اتخذ قرارات اتصفت بالحاسمة يوم عيد الجمهورية تمثلت أساسا في تجميد عمل البرلمان واختصاصاته لمدة 30 يوما، وتنحية رئيس الحكومة المحسوب على حركة النهضة الإسلامية ما أثار جدلا على الصعيدين الداخلي والخارجي.

وأكد منذر الخماسي شاب عشريني أن اختلافه مع أخاه كان واضحا حتى قبل اتخاذ الرئيس قيس سعيد لقراراته.

وقال الخماسي إن الاختلاف بدأ منذ انطلاق حراك 25 يوليو 2021، حيث كان أخاه يحقّر من جهود المتظاهرين ويصفهم بالنزر القليل، وهو ما أثار غضبه لأنه رأى في أخيه عدم احترام للرأي المخالف وطرق التعبير عليه.

من تداولوا على السلطة منذ العام 2011 ساهموا في تقسيم المجتمع إلى صنفين، كما صنفوا المرأة حسب مظهرها الخارجي إلى سافرة ومحجبة ومنقبة وهو ما أثّر على علاقات الأفراد فيما بينهم

ويرى خبراء علم الاجتماع أن حالة من الانقسام الحاد والاستقطاب المرضي، أصبحت السمة السائدة بين التونسيين على مستويات عدة في القرى والمدن، وحتى بين أفراد الأسرة الواحدة والأصدقاء والمعارف.

وأرجع الخبراء ذلك إلى ما شهدته تونس من انقسام عقب أحداث يناير 2011، خصوصا وأن الذين تداولوا على السلطة منذ ذلك التاريخ ساهموا في تقسيم المجتمع إلى صنفين كما صنفوا المرأة حسب مظهرها الخارجي إلى سافرة ومحجبة ومنقبة هو ما أثّر على علاقات الأفراد فيما بينهم، وساهم في تشتت الأسرة ذات الانتماءات الفكرية والسياسية المختلفة وتمسك كل فرد برأيه وموقفه.

وقال الصحبي بن منصور أستاذ الحضارة التونسي بجامعة الزيتونة "جرت العادة أن تنقسم الأسرة التونسية جراء الاختلافات الناتجة عن الانتماءات الرياضية المتباينة لأفرادها لاسيما في تونس العاصمة، وأعني بالانتماءات الرياضية الولع بإحدى جمعيات كرة القدم. فإذا دارت مباريات بين الفرق التي يتعصب لها أفراد الأسرة الواحدة يحصل الصدام العاطفي بين الخاسر والرابح من مشجعي الفرق داخل الأسرة الواحدة وحتى خلال النقاشات المنجرة عن ترتيب الفرق وأسباب هزيمة هذا الفريق أو تعثر مسيرته وسبب تفوق الآخر وتصدره النتائج".

 

الصحبي بن منصور: الهزائم السياسية للأطراف التي ينتصر لها فرد من الأسرة قد تجعل هذا الأخير محل سخرية

وأضاف لـ"العرب" أنه بعد ثورة 2011 صار الشعب التونسي شغوفا بالسياسة أكثر من شغفه بكرة القدم. ويلاحظ أنه بعد سنوات قليلة من عمر الثورة تم تجاوز قضايا الحرية والديمقراطية والشغل والكرامة الوطنية، لتجد الأسرة التونسية نفسها ضحية الصراعات الأيديولوجية والانتماءات الحزبية والسياسية لأفرادها.

وأكد أن هذا تم في مرحلة أولى بين تيار النهضة الثورية وبين أتباع النداء الذين يمثلون المنظومة القديمة، ثم بين أنصار الدستوري الحر والنهضة ومشتقاتها من جهة أخرى في مرحلة ثانية وبين أنصار الرئيسين منصف المرزوقي والباجي قايد السبسي، ثم بين مناصري قيس سعيد ومنافسه نبيل القروي، ولا نغفل في أثناء ذلك عن وجود يساريين أو شيوعيين أو جبهاويين داخل أسر كثيرة.

وأشار إلى أن هذا التنوع الفكري الخلاق ينبني أساسا على تبني قناعات سياسية ومبادئ للإصلاح تختلف من تيار سياسي إلى آخر لا تفسد للود قضية بين أفراد العائلة الواحدة، لكن الهزائم السياسية للأطراف التي ينتصر لها فرد من الأسرة قد تجعل هذا الأخير محل سخرية أو فذلكة أو مضايقة من إخوته من باب المزاح الذي يستبطن استنكارا على خياره أو توجهه غير الصائب من مقياس القبول أو التجاوب الجماهيري.

وقد يتحول التعصب أو المزاح إلى أحقاد أو قطيعة أو حتى عنف لفظي أو جسدي، لكن هذا في حالات نادرة جدا، وهكذا صدق الشيخ المصلح محمد عبده حين قال "إذا دخلت السياسة عقلا أفسدته".

وقال الخبراء إن الجميع أصبح يمارس نوعا من الرذيلة الحوارية، ليصبحوا مجرد قوافل ردود وقذف على كل ما يتحرك لمجرد خلاف في الرأي، وهم بردودهم النمطية قد تعدّوا على المنطق السليم، وابتعدوا عن الحوار بمفهومه ومضمونه الذي طالما تمنيناه كثيرا.

وأشاروا إلى أنه في الثقافة العربية فقط قد يتحول اختلاف الرأي إلى عراك كلامي مشحون بالانفعال الذي يقود إلى الإحباط والتشنّج، عن طريق النقد اللاذع أو التهجم على صاحب الرسالة والحط من وجهات نظره وتسفيه أقواله وجرح مشاعره وخدش اعتباره.

وقال الخبراء “لقد تربينا على فكرة الانتصار والغلبة والإفحام (وإلقام الآخرين حجرا). إذ نعتقد أننا يجب أن نسحق الجميع حتى لا يبقى غير صوتنا الوحيد. وليس على فكرة التعددية والتشارك ومحاولة الفهم والقبول بسلمية التعايش ضمن مجتمع متعدد

وأضافوا أنه بمجرد ما أن يختلف اثنان في الرأي يتخذ الخلاف شكلا آخر ومنحنى آخر حيث يبتعد عن الموضوعية إلى الشخصنة، فلم يعد خلافا واختلافا بين رأي ورأي آخر، بل يصبح خلافا واختلافا بين شخص وشخص ويتحول الأمر إلى محاول إقصاء الآخر عن طريق إهانته، بل يصل الأمر إلى حد القطيعة والكراهية.

وأضافوا أنه بفضل الإعلام الأصفر الكاذب والطابور الخامس الذي لا هم له إلا خلق الفتن والأحقاد والنخب منزوعة الضمير ساد المجتمع مناخ من الخصومة المريرة والعداء والكراهية العالية شرقا وغربا.

الجميع أصبح يمارس نوعا من الرذيلة الحوارية، ليصبحوا مجرد قوافل ردود وقذف على كل ما يتحرك لمجرد خلاف في الرأي، وهم بردودهم النمطية قد تعدّوا على المنطق السليم

وأكد الخبراء أن لوسائل الإعلام دورا هاما في تثقيف الأفراد وتجاوز تأثير اختلاف الثقافات الفرعية التي ينتمون إليها، كما يسهم بعض ما تتيحه من أفكار ومفاهيم في توفير بؤرة ثقافية مشتركة يمكنها أن تساهم في ضبط سلوكيات الأفراد وتوجيهها نحو تحقيق أهداف المجتمع التنموية في المجالين الاجتماعي والاقتصادي معًا.

واعتبروا أن الأسرة من أهم المؤسسات التربوية التي يعهد إليها المجتمع بالحفاظ على هويته وضبط سلوكيات أفراده لتأمين استقراره، وتشارك الأسرة العديد من المؤسسات التربوية التي يتوقع أن تعمل بصورة متساندة ومتكاملة لتحقيق الاستمرار والتوازن للمجتمع.

ويرى خبراء العلاقات الأسرية أنه لزامًا على أفراد الأسرة أن يتعلموا وينشروا ثقافة الحوار بأسلوب راقٍ ويروضوا فكرهم وأنفسهم عليها كي يتقبلوها عن رضا وقناعة وإيمان، وأن يكون نقاشهم موضوعيا دون أن يتعرضوا لخصومهم باتهامهم أو ازدرائهم أو إهانتهم.

وقال الخبراء إن التزام الأفراد بهذه الأسس والقواعد كفيل بارتقائهم في حواراتهم مع الآخرين، وكفيل بتغيير نظرتهم لأنفسهم ونظرة مجتمعهم لهم.

كما ينبغي الاعتراف بأن الاختلاف في المعتقدات الفكرية سواءً كان بسيطا أو كبيرا هو جزء من أي علاقة، ومن المهم عدم تعليق أهمية كبيرة على ماهيّة الاختلاف بل الاهتمام بطريقة احتوائه.

تقول ديانا بيرث في مقال لها بعنوان ست طرق لإدارة الاختلافات في علاقاتك المنشور في مجلة “سيكولوجي تودي” إنه من الجيد تجاوز فكرة أن الآخر مخطئ والانتقال إلى فكرة التعلم من الآخر وخلق مفهوم جديد يجمع بين الأفكار والقيم المتباينة بشكلٍ عادل.

21