الحراك الشعبي في لبنان يربك حياد الجيش

تبرز الكثير من صور ومشاهد الحراك الشعبي غير المسبوق في لبنان طبيعة العلاقة التي تجمع الشعب بالمؤسسة العسكرية العابرة للطوائف، وأكبر الأدلة على ذلك المبادرات الشعبية الكثيرة والمتعاطفة مع الجيش والتي قوبلت بتأثر الجنود ومشاهد التآخي. وتجعل هذه العلاقة الجيش اللبناني أمام مهمة صعبة تتمثل في ضرورة التوفيق بين ضدين؛ أولهما حماية المتظاهرين وحقهم في التعبير، وثانيهما تنفيذ أوامر السلطة السياسية والحفاظ على النظام العام.
بيروت – شهدت الشوارع في أنحاء لبنان السبت تدفق المحتجين في تواصل للحراك الشعبي، الذي سبب أزمة أصابت البلاد بالشلل منذ عشرة أيام، رغم جهود الجيش لإعادة فتح الطرقات.
وتحولت صورة العسكري الذي يذرف الدمع أمام متظاهرين مناهضين للطبقة السياسية إلى إحدى أبرز صور الحراك الشعبي في لبنان، فقد جسد هذا الجندي الذي وجد نفسه بين ناري واجبه ومشاعر التآخي تجاه الشعب معادلة جيش مجبر على لعب دور التوازن في بلد يشهد حراكا شعبيا نادرا.
وبات الجيش اللبناني في واجهة الأحداث في بعض المناطق وسط رفض المحتجين للتراجع قبل أن تنصاع السلطة لمطالبهم التي نزلوا إلى الشوارع منذ 17 أكتوبر لانتزاعها.
وقال بيان صادر عن الجيش إن قياداته وقيادات قوات الأمن اجتمعت “لمناقشة الأوضاع الراهنة في البلاد في ضوء استمرار التظاهرات وقطع الطرقات.. وتشاور المجتمعون في الإجراءات الآيلة إلى تسهيل حرية تنقل المواطنين على الطرقات الحيوية، وحفظ أمن المتظاهرين وسلامتهم”.
وأغلق محتجون الطرقات بحواجز واعتصامات في إطار موجة غير مسبوقة من المظاهرات المطالبة باستقالة الحكومة.
وتجتاح لبنان منذ عشرة أيام احتجاجات ضد نخبة سياسية متهمة بالفساد وسوء إدارة أموال الدولة وقيادة البلاد نحو انهيار اقتصادي لم يشهده لبنان منذ الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990.
وأغلقت العديد من مؤسسات القطاعين العام والخاص من بينها المصارف والمدارس وشركات كثيرة بسبب الأحداث.
وانتشرت قوات الجيش وشرطة مكافحة الشغب بالطرقات الرئيسية في أنحاء لبنان، السبت.
وتمكنت القوات من إعادة فتح بعض الطرقات لبضع ساعات صباح السبت قبل أن يعود المحتجون إلى الاحتشاد.
وقالت الوكالة الوطنية للإعلام إنه سمعت طلقات لأعيرة نارية قرب مدينة طرابلس بشمال البلاد لدى محاولة قوات الأمن إعادة فتح طريق.
لكن لم يتضح مصدر إطلاق النار. وصرّح مصدر أمني بأن ثلاثة أشخاص أصيبوا.
وانتشر الجيش الأربعاء في منطقة جل الديب شمال بيروت لفتح الطريق الذي أغلقه المحتجون، لكن هؤلاء واجهوا العسكريين بترداد النشيد الوطني وتوزيع الورود عليهم، في مشهد من التآخي أثّر في العسكريين أنفسهم.
ويؤكد أرام نيرغيزيان، المتخصص بشؤون الجيش اللبناني في “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” ومقره الولايات المتحدة، “حاولت الطبقة السياسية، من داخل الحكومة وخارجها، دفع الجيش اللبناني إلى (تنظيف الشارع)، لكنه قاوم” هذه الضغوط.
ويرى الجنرال المتقاعد فادي داود أن الجيش يحاول “التوفيق بين ضدين”؛ أولا، حماية المتظاهرين وحقهم في التعبير الذي ينص عليه الدستور اللبناني، وثانيا، تنفيذ أوامر السلطة السياسية والحفاظ على النظام العام.
وازداد دور الجيش تعقيدا مع ظهور مناصرين لحزب الله في التظاهرات لإبداء تأييدهم للأمين العام للحزب حسن نصرالله والتنديد بتعرضه لانتقادات من المحتجين أسوة بالسياسيين الآخرين في البلاد.
ويحظى الجيش اللبناني بتأييد شعبي كبير في البلاد، فهو عابر للطوائف في هذا البلد الذي شهد حربا أهلية دامية في الماضي (1975-1990) تعززت خلالها سلطة الميليشيات الحزبية والطائفية.
ويضيف نيرغيزيان أن الجيش “من المؤسسات القليلة في البلاد التي تمثل الشعب بكافة أطيافه.. ويحظى أداؤها بمصداقية” لدى اللبنانيين.ويشكّل بذلك الجيش، الذي يضم 80 ألف عنصر، رمزا للوحدة الوطنية.
دور الجيش يزداد تعقيدا مع ظهور مناصرين لحزب الله في التظاهرات لإبداء تأييدهم لحسن نصرالله، والتنديد بتعرضه لانتقادات من المحتجين، أسوة بالسياسيين الآخرين
ويؤكد الجنرال فادي داود أن “الدعم الشعبي أساسي للجيش اللبناني لاستمداد قوته واستمراريته”.
لكن شرعية الجيش يضعضعها امتلاك حزب الله ترسانة أسلحة، وهو الحزب الوحيد في لبنان الذي لا يزال يحتفظ بأسلحته منذ نهاية الحرب الأهلية تحت شعار محاربة إسرائيل.
ويعتمد الجيش على مساعدات مالية أجنبية، فقد منحته مثلا الولايات المتحدة وحدها أكثر من ملياري دولار منذ عام 2006.
وقام المتظاهرون منذ بدء الحراك بمبادرات عدة لإبداء تقديرهم للعسكريين، مثل توزيع الورود عليهم، ورددوا شعارات التأييد للمؤسسة العسكرية، في محاولة لحصد تعاطفها.
ويرى مراقبون أن فرص منح الجيش تأييدا ضمنيا لحركة الاحتجاج تتزايد لكونها لا تستثني أي منطقة في البلاد.
وفي عام 2005 خلال انتفاضة شعبية ضدّ الوصاية السورية على لبنان، وجد الجيش نفسه بين شارعين وخطابين سياسيين متعارضين. لكن اليوم، ورغم اختلاف وجهات النظر السياسية، إلا أن “الشارع واحد”، وفق ما يؤكد الجنرال داود الذي خدم في الجيش اللبناني منذ عام 1983 حتى عام 2019.
وانتشر الأربعاء مقطع فيديو يظهر عسكريا يذرف الدمع أمام المتظاهرين، وآخر يظهر عناقا بين عسكري ووالده الذي كان بين الحشود. ويقول علي وهو متظاهر يبلغ 34 عاما من ساحة الشهداء وسط بيروت إن “الجندي بكى لأنه واحد منا ويشعر بألمنا ونحن نشعر بألمه”.
وانتشرت على بعض الجدران في بيروت عبارة “الجيش خط أحمر”.
ويؤكد أحمد (28 عاما) وهو معتصم في رياض الصلح وسط بيروت أن “الجيش هو الذي يحمينا”.
وفي ظلّ الأزمة الحالية، يطالب بعض المتظاهرين بشكل ضمني الجيش بأن يستلم زمام الأمور في البلاد، فيما انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور لقائد الجيش جوزيف عون مع شعار “أنقذنا”.