الحرائق تهدد جهود الدولة والمزارعين في تونس

مع بلوغنا منتصف عام آخر قاس من حيث المعيشة والأسعار في تونس، نصطدم مجددا بضيف مزعج يطل على منتجي الحبوب اسمه الحرائق. هذه الآفة، التي كانت تنقصنا! لا تنحصر انعكاساتها على الدولة، وأصحاب الحقول في مناطق الإنتاج الرئيسية، بل ترتد على المستهلكين في شكل فقدان منتجات غذائية من هذه المادة الأساسية لقوت الناس.
بسبب موجة الحر، تسلط الحرائق المدمرة للمحاصيل الزراعية، والتي تم إحصائها مؤخرا الضوء مرة أخرى على العواقب الكارثية للاحتباس الحراري مع تحوّل هذا الخطر إلى مشكلة باتت تتكرر كل سنة، وتأتي غالبا على مساحات مهمة من القمح والشعير، وتهدد جهود الدولة والمزارعين في توفير أحد الموارد الأساسية لغذاء سكان البلد.
سبع حرائق جدت في ولاية (محافظة) باجة الواقعة شمال غرب البلاد خلال أقل من شهر والتهمت 13 هكتارا من القمح والشعير، مع عدة هكتارات أخرى من القمح تآكلت في ولاية منوبة غرب العاصمة. ومن المحتمل أن تشهد مناطق أخرى موجة أخرى من الحرائق. كل هذا يأتي قبل اشتداد درجات الحرارة، مما يثير المخاوف الممزوجة بالقلق بشأن المحصول، الذي تراهن عليه الحكومة لتقليص الاستيراد.
◄ نصائح الإرشاد لم تعد تجدي نفعا على ما يبدو ولا حتى إستراتيجيات مكافحة آفة اشتعال النيران في الحقول، إذ عادة ما تمتد التأثيرات المباشرة الناجمة عن الحرائق في الزراعة إلى فترات تصل إلى سنوات
موسم الحرائق هذا يعيد تكرار صداع أضحى مزمنا على مدار ثماني سنوات تقريبا بالنسبة إلى الجميع، لاسيما وأن البيانات التي أوردتها الإدارة العامة للإنتاج الفلاحي تؤكد أنه إلى حدود منتصف مايو الماضي، بلغت المساحات المزروعة من الحبوب للموسم الحالي نحو 972 ألف هكتار من إجمالي قرابة 12 ألف هكتار تم تخصيصها للإنتاج.
أساسا حتى لو أن تونس قامت بتحصيل كل الإنتاج على افتراض عدم حدوث حرائق أو عدم إهدار جزء منه خلال النقل والتخزين، كما حصل قبل سنوات، فإن البلد يواجه احتياجات قياسية من واردات الحبوب خلال الموسم الحالي تبلغ 4.7 مليون طن، بحسب تقديرات حديثة صادرة عن النظام العالمي للمعلومات الإنذار المبكر المعني بالأغذية والزراعة التابع لمنظمة فاو. وتشكل هذه الكمية زيادة بنحو 80 في المئة بمتوسط العام 2023. ويكشف هذا الوضع بوضوح التحدي الكبير أمام المسؤولين.
الزيادة في الطلب على الواردات مردها الأساسي قلة الأمطار في الموسم الماضي، وفق خبراء فاو، والذي أنتج في نهاية المطاف محصولا ضعيفا لم يتجاوز 270 ألف طن قياسا بحوالي 750 ألف طن في العام السابق. وبينما أضرت الظروف المناخية بجزء من الإنتاج، خزّن أصحاب مزارع الحبوب جزءا من المحصول لتلبية احتياجاتهم الخاصة، مثل الاستهلاك والبذور.
هذه الأرقام ببساطة تؤكد لنا أن تونس من أكثر الدول تعرضا لمخاطر التغيير المناخي، كما هو الحالي مع باقي بلدان شمال أفريقيا، ليس فقط نتيجة قصور السياسات المتبعة في مثل هكذا ظروف، ومحدودية الإمكانيات، واللامبالاة من قبل البعض، وإنما يعود ذلك بشكل خاص إلى موقعها الجغرافي المطل على أحد المسطحات المائية الأكثر تضررا من درجات الحرارة المرتفعة، وأيضا لأنها متاخمة لأكبر صحراء في العالم.
إدراكا بأن الوقاية والإصلاح يشكلان تحديا مزدوجا للمسؤولين، وتحسبا لفصل الصيف الحارق، وهو الموسم الملائم لاندلاع الحرائق، وضعت الجهات المعنية، وتشمل وحدات الحماية المدنية، خطة في أبريل الماضي، تتعاون فيها مع جميع الولايات، والمديرية العامة للغابات بوزارة الفلاحة. والهدف واضح، وهو تقليل مخاطر اندلاع الحرائق وزيادة فرص التدخل السريع، والفعال في حال وقوع كوارث تهدد المحاصيل أو الغابات.
◄ سبع حرائق جدت في ولاية (محافظة) باجة الواقعة شمال غرب البلاد خلال أقل من شهر والتهمت 13 هكتارا من القمح والشعير، مع عدة هكتارات أخرى من القمح تآكلت في ولاية منوبة غرب العاصمة
لكن، هل بإمكان الخطة، والتي هي نسخة مكررة لخطط سابقة، أن تكون كافية لمعالجة هذه المشكلة، والتي أصبحت اعتيادية خلال هذه الفترة من كل عام، بينما تكافح الدولة لتأمين قوت التونسيين من أهم مصدر غذائي، والذي يكلف خزينة الدولة الملايين من الدولارات سنويا من أجل سد الفجوة في الإنتاج.
الخسائر لا تقتصر على التكاليف، مما يضيف عبئا على الميزانية، فنادرا ما يقوم المزارعون التونسيون بالتأمين لحماية حقولهم. وعلى الرغم من تكرار الحرائق كل عام، بغض النظر عن المتسبب فيها، سواء بفعل الحرارة أو بفعل فاعل، إلا أن عددا قليلا منهم يتبعون سياسة للحفاظ على محاصيلهم. ومن بين نصف مليون مزارع، لا تغطي بوالص التأمين سوى 7.75 في المئة منهم.
حتى التعويضات، التي من المفترض أن تدفعها الدولة للمتضررين، ليست كافية، كما أنه قد يطول موعد صرفها، مما يولّد ضغطا على أصحاب الحقول لتوفير الموارد المالية الكافية استعداد للموسم التالي، وبالتالي يعمق هشاشة ظروف القطاع الزراعي بشكل عام، بينما يعاني فيه من قلة الموارد المائية، ومن سياسة الدولة في تقنينها.
لم تعد نصائح الإرشاد تجدي نفعا على ما يبدو ولا حتى إستراتيجيات مكافحة آفة اشتعال النيران في الحقول، إذ عادة ما تمتد التأثيرات المباشرة الناجمة عن الحرائق في الزراعة إلى فترات تصل إلى سنوات. فعلى سبيل المثال، إذا احترقت الصفوف الخارجية الثلاثة من الحقل، فقد يؤثر ذلك على جودة المحصول والتربة. وإذا دمرت حرائق البنية التحتية للمزارعين، فقد يؤثر ذلك على محصولهم اعتمادا على المعدات المتضررة.
لا بد اليوم من اعتماد رؤية أكثر حزما، للابتعاد عن السير بين نيران حقول غذاء التونسيين الذين لا حول لهم ولا قوة في هذا الوضع الضاغط، سوى ما تجود به دولتهم ومزارعها عليهم، وفي الوقت نفسه، هو اختبار للمسؤولين لتفادي دوامة الدوران في الفراغ.