البنوك التونسية في ميزان المؤشرات المتناقضة

معظم الأنظمة المصرفية تتحمل مسؤولياتها في دفع الاقتصاد طالما مولت الاستثمار وسهلت الوصول إلى القروض، لكن في تونس الوضع مختلف، إذ تبدو وكأن بنوكها في جزيرة معزولة لا علاقة لها بالتنمية.
الأربعاء 2023/05/03
أي دور للبنوك في الاقتصاد التونسي؟

دأب الخطاب الرسمي للمسؤولين في تونس على ربط حوافز بيئة الأعمال بحزمة من الأهداف، منها ردم الفجوة الهائلة بين المناطق المحرومة من التنمية، وتوفير فرص التشغيل وزرع ثقافة العمل الخاص. والأهم من هذا جعل الاقتصاد ينمو عبر شبكة تجارية تبدأ من منتجي السلع والخدمات لتنتهي في السوق لتحريك الاستهلاك.

وجرّاء السعي إلى رسم حدود القطيعة مع الماضي بداعي التغيير، لم تسمح الخطط التي وظفتها حكومات ما بعد 2011 تحت يافطات مثل “الترويج لتونس كقبلة استثمارية” بتقييم نظام الأعمال القائم، ومدى نجاحه حتى مع إقرار قانون استثماري بديل قبل ست سنوات.

ظاهريا، كانت الغاية طموحة، لكن لم تستند إلى هندسة واقعية من حيث المحتوى والتنفيذ الفعلي والربط الجيّد بين أصحاب المشاريع ومصادر التمويل حتى مع وجود القوانين التي أقرتها كل الحكومات تقريبا. وليس ذلك فحسب، بل إن غياب الشفافية كان له دور بارز في عدم تأسيس نموذج فعّال تعتمد فيه الشركات الصغيرة والمتوسطة على نفسها.

وما يبرز ذلك التناقض عدم وجود دلائل عملية على أن القطاع المصرفي لديه نية للقيام بدوره في إنقاذ الاقتصاد العليل، إذ إنه يتغذى من تقاعس الجهات التنظيمية في إحداث انقلاب جذري لجعل البنوك تشارك بقوة في تنمية المشاريع الخاصة عبر توفير التمويل.

غياب دور البنوك في النهوض بالاقتصاد التونسي، في ظل السياسات النقدية القائمة.. أدى إلى استمرار معظمها وخاصة الخاصة في تحقيق المزيد من الإيرادات وحصنت نفسها أكثر من الأزمات

عدم المراجعة الجادة لدور البنوك يعكس الإصرار على التشبث بتوجه لم يثبت أنه ذو جدوى، وتدور في فلكه مآخذ كثيرة، ويبرز ذلك من خلال الانتقادات، لاسيما من قبل المنظمات والجمعيات التونسية أو حتى المؤسسات الدولية المانحة، ووكالات التصنيف الائتماني.

تلك الانتقادات تصب في كون بنية البنوك وملاءتها المالية تبدوان ضعيفة، وهو ما حذرت منه فيتش مرارا، وفي المقابل تسبب كارتيل من رجال الأعمال الذين يسيطرون على القطاع، في جعل المنافسة على تمويل مشاريع البنية التحتية والشركات الصغيرة والناشئة أمرا ثانويا.

وفوق كل ذلك، فإن وعود البنك المركزي بوضع آلية تمويل جديدة تقوم على إجبار القطاع المصرفي على تمويل القطاعات الإنتاجية، ظلت حبرا على ورق بسبب إصرار البنوك، التي لم تواكب عصر الرقمنة، على عدم الدخول في مخاطرة قد تزيد من متاعبها.

وما يؤكد أن البنوك تخشى ذلك رغم اعتمادها على الإقراض على أساس التمويل الشخصي طالما الضمان هو العقار أو السيارة أو الضغط على المقترض، هو مساهمتها من الخلف في دعم الأعمال عبر مؤسسات التمويل الصغير مثل إندا وأدفنس وتيسير، ما يجعلها تحقق من وراء ذلك عوائد أعلى دون أن تكلف نفسها بالتمويل المباشر.

أغلب الأنظمة المصرفية في العالم تتحمل مسؤولياتها في دفع عجلات اقتصادات الدول كونها تسهم بقسط وافر من النمو طالما مولت الاستثمارات وسهلت الوصول إلى القروض، لكن في تونس يبدو الوضع مختلفا، حيث تشعر من خلال الواقع الملموس وكأن بنوكها في جزيرة معزولة ليست لها علاقة بالتنمية.

لقد أدى غياب دور البنوك في النهوض بالاقتصاد التونسي، في ظل السياسات النقدية القائمة، بما في ذلك رفع الفائدة لتطويق التضخم، إلى استمرار معظمها وخاصة الخاصة في تحقيق المزيد من الإيرادات وحصنت نفسها أكثر من الأزمات.

من المفارقات أن البنوك، وخاصة المدرجة في البورصة، وعددها 12، استمرت في تحقيق الأرباح دون بذل أي جهد وخاصة في 2022 عندما نمت أرباحها بواقع 13 في المئة على أساس سنوي، لتتخطى 1.7 مليار دولار، في حين يمر القطاع الخاص بصعوبات للحفاظ على نشاطه. هذا الوضع انعكس على ملامح البلد، الذي ينمو إنتاجه المحلي بوتيرة ضعيفة، ويجعلنا أمام تناقض صارخ بين قطاع مصرفي منتعش واقتصاد منهك.

عدم المراجعة الجادة لدور البنوك يعكس الإصرار على التشبث بتوجه لم يثبت أنه ذو جدوى، وتدور في فلكه مآخذ كثيرة، ويبرز ذلك من خلال الانتقادات

لعل لغة الأرقام أكبر دليل على ذلك، فالمؤشرات تؤكد أن ستة بنوك يتقدمها بنك تونس العربي الدولي، تهيمن على 75 في المئة من القطاع، وعلى نحو 73 في المئة من سوق القروض، وتحقق أرباحا تقدر بأكثر من ستين في المئة من إجمالي ما يجنيه القطاع، الذي تملك فيه الدولة كلا من البنك الوطني الفلاحي وبنك الإسكان والشركة التونسية للبنك، فضلا عن مساهمتها في 16 بنكا خاصا من بين 24 مؤسسة مالية تعمل في البلاد، بينها ثلاثة بنوك غير مقيمة.

مع الضغط المالي الرهيب على توازنات الدولة، تبدو تونس اليوم في أمسّ الحاجة إلى حشد جهودها لبناء أسس قوية لإحياء قطاع الأعمال، وخاصة دعم لبنات المشاريع الصغيرة والمتوسطة حتى تحظى عملية الإصلاح المنشودة بقبول لدى المانحين، فالاستقرار يرتكز أساسا على تعزيز الاستدامة الاقتصادية وعلى الديناميكية والقدرة على النفاذ إلى التمويلات، وإتاحة الفرص الحقيقية.

لئن كان بمقدور المانحين الدوليين المساعدة في إصلاح الاقتصاد، فإن السلطات تدرك أن ذلك سيكون مجرد دعم لا يمكن التعويل عليه دائما، ولذا يقع على عاتق السلطات النقدية مهمة تبديل النمط الراهن المتعلق بمساهمة البنوك في تحفيز الأعمال بشكل فعّال.

فالخسائر التي تكبّدتها معظم القطاعات خلال فترة الإغلاق ثم الحرب في أوكرانيا، وخاصة المشاريع الصغيرة والمتوسطة، التي تعد العمود الفقري للاقتصاد، شكلت ضربة قاسية لجهود تونس الساعية إلى دفع مؤشر البطالة إلى النزول، خاصة وأن قطاع الأعمال برمته دفع ثمنا باهظا للأزمات المتتالية. وهذا الأمر صدّع أسس اقتصاد مبني أصلا على ركائز هشة.

المؤكد أن الخيارات أمام تونس محدودة لإنقاذ وضعية الشركات التي أفلس بعضها جراء تتالي الصدمات نتيجة التركيز على مجالات أخرى ترى الحكومة أنها ذات أولوية. وهذا مفهوم. لكن حتى تنقذ ما يمكن إنقاذه، فإن المسؤولين بمن فيهم صنّاع القرار النقدي عليهم النظر بعمق في كيفية التخلص من الأساليب البالية المرتبطة بروح نشاط البنوك الذي يعتمد في جزء منه على التشاركية.

10