الانفتاح الطبقي يجعل الذائقة الفنية متقاربة

تطرح تظاهرة “كلاسيكيات النجمة الزهراء” التي يقيمها مركز الموسيقى العربية والمتوسطية “النجمة الزهراء” بضاحية سيدي بوسعيد التونسية، خلال شهر فبراير الجاري، سؤالا قديما متجدّدا مفاده: إلى أي حد يمكن لمثل هكذا تظاهرات فنية انتقائية تحقيق المعادلة الصعبة بين ما هو جماهيري وما هو نخبوي؟
تونس - نظم مركز الموسيقى العربية والمتوسطية “النجمة الزهراء” بضاحية سيدي بوسعيد، القرية السياحية الشهيرة بشمال العاصمة التونسية، سلسلة عروض للموسيقى الكلاسيكية الغربية تحت عنوان “كلاسيكيات النجمة الزهراء” وتمتد خلال شهر فبراير الحالي.
قد يبدو الحدث روتينيا في القصر الذي بناه الموسيقي والرسام الفرنسي ذو الأصول الألمانية رودولف ديرلونجي، في بداية القرن الماضي، واعتمدته السلطات الثقافية التونسية منذ عام 1991 مركزا للأبحاث والعروض الموسيقية داخل فضائه المعماري الأخّاذ، لكن ما يثير الانتباه أن مركز النجمة الزهراء يخصّص لكل شهر لونا موسيقيا تلبية لمختلف الأذواق.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه السنة هي سنة استثنائية، لما تقتضيه قواعد البروتوكول الصحي من تخفيض في عدد المقاعد (60 مقعدا فقط) عملا بمبدأ التباعد الاجتماعي، ما تعذّر على الجهة المنظمة التخفيض في سعر التذاكر كما جرت العادة (30 دينارا، أي ما يقارب العشر دولارات للتذكرة)، لكن بإمكان عشاق الموسيقى الكلاسيكية متابعة العروض مباشرة على منصة رقمية مخصّصة لهذا الغرض.
وشدّد المنظمون على أن العروض تنطلق على الساعة الرابعة مساء، وسط تطبيق مشدّد للإجراءات الصحية، مع السعي إلى تمكين أكبر عدد ممكن من الجمهور من متابعة العروض، وذلك عبر بثّها لحفلات التظاهرة بتقنية “ستريمينغ” على الصفحة الرسمية لـ”مؤسسة النجمة الزهراء”.
معضلة ذوقية
سيماء صمود، مديرة مركز الموسيقى العربية والمتوسطية “النجمة الزهراء”، قالت إن “المركز هو الخزينة الوطنية للتراث التونسي التي يقع فيها الإيداع القانوني لحفظ الذاكرة الجماعية وخاصة الفنية للتونسيين”.. ولكن، هل حقا لـ”جميع التونسيين؟”.
سؤال قد يبدو فيه نوع من التجني ومنطق “هذا على الحساب قبل قراءة الكتاب”، خصوصا أن المهرجان لم يتغافل عن الموسم الرمضاني الذي سيخصّه القيمون على مركز الموسيقى العربية والمتوسطية بعروض صوفية من مختلف البلاد العربية والمتوسطية، ويكتسي حلة خاصة تنسجم مع عبق المكان الذي يضم أضرحة ومقامات لرجالات من الصوفيين على رأسهم أبوسعيد الباجي الذي سميت القرية باسمه.
وسوف تكون البداية بعرض “صوفيات نجمة الزهراء”، يليها مشروع “بصمات” الذي يتضمن موسيقى الزنوج التونسيين المعروفة بـ”اسطمبالي”، وأخيرا عرض “مدينة نابل تتغنى بالقادرية” للباحث محمد البسكري.
ولم تنس صمود، أن تسلّط الضوء على حرص مركز النجمة الزهراء لإصدار كتاب يتضمّن حياة العلامة الصوفي عبدالرزاق القليوي، للكاتب حاتم اللجمي.
كل هذا لا يجعل مركز النجمة الزهراء في الضاحية ذات النخبة البرجوازية والفئة الميسورة من التونسيين والأجانب الذين اختاروا العيش فيها، من اتهام جمهور الشعبويين لهم بالفرز الطبقي، وابتعادهم عن نبض الشارع الحقيقي، الذي يروم الاستمتاع بتلك الفنون الشعبية بعيدا عن الجانب الاستشراقي، والطريقة التي يتناول بها البرجوازيون الفنون الشعبية بقفازات معقّمة.
هذه المعضلة الذوقية ما زالت محل جدل بين شرائح وحساسيات فكرية تونسية، تتناوب فيها الاتهامات والمماحكات. فريقان، واحد يدّعي رفع سوية الذائقة وتهذيب النفوس بكل ما علق بها من مسوخات وتشوهات فرجوية شعبوية رخيصة، وفريق آخر يزعم أن الثقافة والفنون ليست تلك الحالة المخملية التي تذكّر بالبايات، ملوك تونس أيام العهد العثماني بل هي انفتاح على الشارع التونسي، ومخاطبة وجدانه الجماعي.
الفئات الشعبية لديها حساسية خاصة من كل تظاهرة ثقافية تحتضنها الأحياء الراقية، وتعتبرها لا تنتمي إليها لمجرد أنها تقام في فضاء باذخ المعمار، ويؤمّه جمهور متأنّق ومتعطّر.
الأوساط الميسورة، بدورها، تتأفّف من أجواء “الهشّك بشّك” كما تصفها العامة نفسها، وتعتبر أن الفن الراقي يبقى “راقيا”، وإذا نزلنا إلى الحضيض باسم الإخلاص والارتباط بثقافة الشعب وذاكرته، فإننا نجني على “الشعب” نفسه ونبقيه في حضيض تلك الأجواء المعفّرة بالابتذال والسوقية.
انتقاء نخبوي
مهما يكن من أمر، فإن المهرجان، وللأمانة بحسب جميع المتابعين من داخل تونس وخارجها، حافظ على تقاليده في انتقاء الموسيقى الراقية من داخل تونس وخارجها. أمر طبيعي أن ينتقده الشعبويون ويتهمونه بالنخبوية، لكن القيمين عليه يردّون عليهم بأن هذا هو شأن الموسيقى التي يرومها ويرتئيها روّادها الأوائل من أمثال شيخ موسيقيي تونس خميس الترنان والمؤرّخين حسن حسني عبدالوهاب وأحمد الوافي الذين كانوا من أصدقاء وجلساء البارون ديرلونجي في عشرينات القرن الماضي، وكذلك العلامة الموسيقي الحلبي علي الدرويش، الذي استقدمه البارون من مصر لينوّط ويوثّق الموشحات التونسية المعروفة بـ”المالوف”.
ولعل ما أعطى لهذا المهرجان ألقه وإشعاعه على الصعيد المتوسطي هو فرادة البناء الذي يحتضنه في القرية التي وصفت بأنها من أجمل أمكنة العالم. ويضم قصر ديرلونجي، الذي يعدّ في حد ذاته تحفة معمارية قلّ نظيرها على شواطئ المتوسط، متحفا للآلات الموسيقية التاريخية، يحتوي على 15 آلة موسيقية تعود للبارون ديرلونجي كالقانون التركي وآلة العود والمزود، وآلات أخرى ذات أصول أفريقية جمّعت وصنّفت لتستغل في الجانب البحثي العلمي، فضلا عن الفناء الخارجي وما يحتويه من أثاث غاية في الروعة.
لم تتفرّد تونس وحدها من ضمن البلدان العربية بإقامتها لتظاهرات ثقافية داخل معالم تاريخية وفضاءات عمرانية متميزة على غرار بيت الدين في لبنان وقصر العظم في سوريا وغيرهما من أماكن عديدة في مصر، لكن السياسة الثقافية للدولة هي الجديرة بإنجاح مشروع دون آخر. وإذ تأرجحت بعض التظاهرات العربية بين الغث والسمين، والجماهيري والنخبوي، فإن القيمين على الشأن الثقافي بإمكانهم أن يتحكّموا في ذلك من خلال توفير الدعم المالي وتشجيع روح الابتكار لدى الأجيال الشابة.
معضلة الجدل بين دعاة النزول إلى الجمهور العريض وبين الساعين إلى الرقي بذوقه، لا تزال مسألة قائمة في معظم البلدان العربية، وحتى في الغرب الأوروبي والأميركي، لكن تونس، وعلى وجه الخصوص، تشهد انفتاحا طبقيا قلّ نظيره في العالم العربي، وهذا الأمر مردّه إلى السياسة الثقافية دائما، منذ المؤسّسين الأوائل إبان دولة الاستقلال في بواكيرها الأولى.