الأفكار النورانية قد تتحول إلى أفكار ظلامية

في رحلة الإنسان نحو الحقيقة كان يمكنه أن يبني واقعا أفضل.
الاثنين 2023/08/21
الإنسان ما زال يبحث عن الحقيقة الكاملة (لوحة للفنان بسيم الريس)

المتأمل في ما وصل إليه العالم من تقدم تكنولوجي وعلمي اليوم سيقف مشدوها حين يدير وجهه إلى الضفة الأخرى من هذا الواقع المضيء، حيث الحروب والفقر والمجاعات والتخلف والجهل وغيرها من الظواهر. إذن، لا يمكن إلا أن يقر بأن هناك خللا ما في النظام البشري، فما هو الإشكال الذي خلق هكذا بيئة إنسانية مضطربة ومتناقضة؟

متى يفقد الإنسان شغفه؟ حين يتوقف عن البحث عن الحقيقة مثلا؟ أو حين يتوقف عن البحث عن معنى لوجوده ويفقد معنى واقعه؟ ممكن ذلك.

منذ بدء الوجود البشري وأولى خطوات الإنسان في إدراكه لذاته وواقعه وما حوله، بدأ في البحث عن معنى لوجوده، معنى للحياة وللاستمرارية والتطور. ومع بحثه في فكرة الحياة والموت في آن واحد، تطورت المجتمعات البشرية كثيرا وقطعنا شوطا طويلا في تحسين نوعية حياتنا وتطويع المعطيات من حولنا لصالحنا، وفي رسم واقع جديد لنا.

لكن هل هذا فعلا أفضل واقع ممكن لنا؟ وهل هذا أفضل معنى لوجودنا؟ ألم تكن هناك إجابات أفضل عن الأسئلة الوجودية في مجتمعات سابقة مثلا؟ في عصور أخرى كان الناس لا يملكون فيها وسائل تواصل اجتماعي ولم يحكمهم وهم سهولة الوصول إلى المعلومة، لكن تلك المجتمعات كانت تملك تفسيرا أفضل لواقعها وللحياة والموت.

الانفصال عن الحقيقة

من غير المنطقي في عام 2023 بعد كل هذا الوعي والتطور أن يكون حال المجتمعات البشرية بهذا الشكل
من غير المنطقي في عام 2023 بعد كل هذا الوعي والتطور أن يكون حال المجتمعات البشرية بهذا الشكل

حلم الإنسان يتخطى المنطق. وقد نجح في الكثير من الأحيان في التماهي مع المعجزات وخلق لنفسه ما لم يدرك أنه قادر على خلقه حقا. تماهى مع الأسماك للغوص في المحيطات ومع الطيور للتحليق عاليا حتى يصل إلى ما هو أبعد من عنان السماء حتى، تماهى مع معادلات الكون الفيزيائية لتجاوز كل التحديات والمخاوف التي تطيح به يوميا.

نجح الإنسان بكل سرور في تخطي الكثير. طوّع هذا العالم لصالحه، ولكن في نفس الوقت استطاع أن يخلق ما هو قادر على نفيه تماما كأنه لم يكن يوما، قنابل قادرة على العبث بالوجود، أسلحة قادرة على ترسيخ اللاعدالة واستفزاز الشياطين داخل عقله وتعظيم الشراسة في أعماقه، قادرة على إعادة هذا الوعي الكامن إلى كائن ظلامي شيطاني يدفع نحو التخريب والتدمير بمساعدة بيئة متطورة.

الوعي قد يكون مدمرا في بعض الأحيان والعبقرية قد تتحول إلى جنون. أليس كذلك؟

بالعودة إلى فلسفة الحياة، لقد عبثنا بعقولنا كثيرا، ورسمنا أفكارا وأساطير في كثير من الأحيان لعلها تساعدنا على استيعاب واقعنا وتساعدنا في الارتقاء إلى بُعد أفضل. وفي أغلب الأحيان ونحن في طريقنا إلى “العُلا”، كُنا نهبط بشكل مريب إلى الجحيم.

في كثير من الأحيان، تحولت الأفكار النورانية إلى أفكار ظلامية تحمل بداخلها عنصرية قاتلة، تمييزا وتفريقا بين البشر على أساسات لا وجود لها، ونهما لوهم السلطة والسيطرة، كل ذلك كان من ابتكار الوعي البشري فقط.

نحن في ملحمة ومسرحية هزلية طالت فصولها، كانت من ابتكارنا وحدنا، وجميعنا بشكل أو بآخر ندفع ثمن هذا الهراء، هراء فكري، عطب أخلاقي صدر منّا خلال تطورنا، ونحن المسؤولون عن كل ما يصدر منّا.

أضعنا طريقنا، وحدنا كثيرا عن الهدف. تبقى هذه وجهة نظري.

نحن لسنا كائنات “سيئة” بالمطلق، فنحن بالعادة نقدس الجمال لبرهة، ننعم بحضن دافئ مع من نحب، نشعر بلذة النجاح حين نصل إلى مبتغانا، نفرح كالأطفال باكتشاف المجهول، لدينا من حرارة العطف ما يكفي ليذيب الثلوج، وردة قادرة على إسعادنا، ثم نعود ونسقط في دوامة تحديات لا منتهية، دوامة ظلامية، لنعود وندمر ما قمنا بتعميره.

لقد خلق الإنسان واقعا قائما على سرقة الوقت، ليسرق حياة الأشخاص. لأجل ماذا؟ الفُتات؟

واقع لا يكترث حقيقة لقيمة كل فرد بعينه. شيدنا مجتمعات وأنظمة مبنية بطريقة محكمة ليكون المهرب منها أشبه بمستحيل. أما حرية العيش، فهي مجرد وهم. فكيف لك أن تصمد وأنت تحاول تجنب هذا النظام؟

مهربك الوحيد سيكون نحو الغابات مثلا أو أن تصبح هامشيا منبوذا.

أنظمة المجتمعات البشرية وجدت لتجعل البشر في عجلة من أمرهم. الفكرة أهم من البشر. الرأس أهم من البقية، والغالبية في هلع مستمر لتأمين قوتهم وضمان وجودهم، وشحذ قيمتهم الخاصة من معطيات وهمية.

وفي ذات الوقت النظام يتأكد من فصلهم تماما عن الطبيعة، عن أنفسهم وإيمانياتهم، أفكارهم وجوهرهم، شغفهم وسلامهم وراحتهم، وعن الحقيقية. وهنا يكمن المفصل المحوري.

التلاعب بالواقع

عبثنا بعقولنا كثيرا ورسمنا أفكارا وأساطير كثيرة لعلها تساعدنا على استيعاب واقعنا وتجيب عن أسئلتنا الوجودية
عبثنا بعقولنا كثيرا ورسمنا أفكارا وأساطير كثيرة لعلها تساعدنا على استيعاب واقعنا وتجيب عن أسئلتنا الوجودية

ما زلنا نبحث عن الحقيقة، ولم يصل إليها أحد، الحقيقة التي في سعينا إليها، كنا نطور من أنفسنا ومجتمعاتنا، ثم ماذا حدث؟

أؤمن أن كل من يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة فهو يملك السراب فقط. لا أحد منّا وصل إلى الحقيقة الكاملة. ما زلنا في طور البحث عن معنى وجودنا. نبحث عن أنفسنا بداخلنا. نحاول تفسير الكثير من الأمور. نحاول تحليل انعكاس أنفسنا، وما زلنا في محاولة لرؤية الصورة بشكل كامل وواضح.

قد نكون نملك أجزاء من الحقيقة مثلا. ولكن هذا النظام يعبث بها كثيرا، يشوهها، يحرفها، ويحاول إخفاء بعض منها بشكل مقصود.

تاريخنا البشري ليس صحيحا بشكل كامل، آثارنا لم يتم الإعلان عنها جميعها بشكل واضح، أدياننا تم تفسيرها بأشكال مختلفة لأمر مقصود، فتحولت إلى طقوس بلا مضمون، وتم استخدامها بشكل مسيء للبشرية في مراحل كثيرة من الوجود.

الصحة؟ يتم إنتاج السموم مقابل كل عقار طبي. التعليم؟ المناهج ممتلئة بالأخطاء الفادحة والمعلومات المغلوطة.

من غير المنطقي في عام 2023 بعد كل هذا الوعي والتطور أن يكون حال المجتمعات البشرية بهذا الشكل.

كان من الممكن أن يكون كل شيء أفضل.

في النهاية من يمتلك الحقيقة والمعرفة سيمتلك قوة أكبر وقدرة على تطويع الآخرين لمصلحته. لذا لماذا ستكون مُتاحة بشكل مجاني؟

من يمتلك الوهم وفتات العلم والمعرفة سيبقى ضائعا، حاضره مُرتبك ومستقبله هش وغير مضمون، والسيطرة عليه تكون أسهل. واللعب بحاضره وواقعه يكون أيسر. أليس هذا تماما ما تعيشه المجتمعات البشرية اليوم؟

ألسنا تماما نعيش في عالم لا يجيب عن أسئلتنا بشكل واضح ويحترم وعينا وعقولنا. علامات الاستفهام فيه تتعاظم مع المفترض أننا نعيش في عصر متطور معلوماتيا وتكنولوجيا.

على أي حال، مجرد وجهة نظر ومحاولة للوصول إلى الحقيقة الضائعة يوما ما، هذا إن وُجدت.

12