الأدب التفاعلي الميديوي يفسده خداع الجمهور ونفاق المتابعين

القارئ محرار صحي، وطرف أساسي لإتمام منظومة الإبداع، بعد تراجع الدعوات النخبوية والفوقية ومقولات موت المؤلف والاهتمام بالنص وحده. ففي عصر شاع فيه النشر الرقمي والإبداع الإلكتروني والتفاعلي وأدب السوشيال ميديا، تطوّر دور القارئ، ربما إلى حدّ التوحّش، في العملية الإبداعية التي باتت تمضي في الاتجاهين.
لطالما تأججت المعارك التقليدية بين البنيويين ورفقائهم من أنصار إعلاء شأن النص وحده وإهمال الجمهور وموت المؤلف ونبذه، وبين أصحاب نظرية التلقي وأسلافهم من دعاة الاحتفاء بالقارئ والاهتمام باستجابته واستقباله وتوخي أفق توقعاته وتلبية غاياته.
بالغ كل فريق في شططه، فذهب الفريق الأول إلى أن الجمهور أكبر أكذوبة فنية ليس لها معنى غير قياس تدني الشاعر وسطحيته وابتذاله، مثلا بزيادة جماهيريته وشعبويته، على حد رؤية أدونيس، فيما نصّب الفريق الثاني المتلقي نبراسا غائيّا وهدفا مقدّسا أمام الشاعر أو المبدع لا يحيد عنه يمينا ولا يسارا حال صناعة قماشته الفنية، ما صار قيدا مُكَبّلا وعبئا يحد من حرية الأديب وانطلاقه وتمرّده على السائد المألوف.
كسر التعالي
حسمت الإبداعات الجديدة، خصوصا الشعرية، التي يطلقها الأدباء مباشرة إلكترونيّا إلى قرّائهم ومتابعيهم من دون الناشر التقليدي/ الوسيط، تلك المعارك النمطية لصالح المتلقي بامتياز، فلم يعد هناك مجال أصلا في ضوء النشر الإلكتروني عبر منصّات التواصل الاجتماعي إلى تجاهل المتابعين، الذين هم وقود النص، وآليات تفجيره وانتشاره، وربما دفعه إلى فضاءات غير مسبوقة وركوبه موجات “الترند” أو بلوغه قائمة “البيست سيلرز” حال ترويجه تجاريّا.
ثمة مزايا عديدة في التقاء الشاعر/ الأديب وجمهوره وجها لوجه، خارج بوابات الإجازة والمنع والرقابة والتابوهات والتمحيص والوصاية وصناعة المثال، حيث تطورت النظرة إلى المتلقي لتراه صديقا للكاتب، ما كسر عزلة المبدع وأخرجه من قوقعته وتعاليه، ودفعه إلى أن يخطو على الأرض مع البسطاء، وعدم الاكتفاء بالتحليق في اليوتوبيا والسباحة في السماء.
يُعنى النشر الإلكتروني بالضرورة التفاعلية مع الجمهور بصورة من الصور، سواء أكان العمل تفاعليّا في الأساس يفسح المجال للاستكمال وملء الفراغات وتخطيط النهايات بمعرفة المتلقي كما في بعض الروايات والقصص الرقمية المفتوحة، المتفوقة تقنيّا، أم عملا عاديّا في ثوب رقمي، كقصيدة مضغوطة مثلا أو هايكو عربي أو نص مفتوح عبر نوعي.
وهنا تقتصر تفاعليته على ردود أفعال الجمهور بين الاستحسان والاستهجان، ويقاس ذلك من خلال عدد المشاهدات والزيارات وطبيعة التعليقات وعلامات الإعجاب المختلفة، مثل اللايكات والقلوب الحمراء.
هذه النوعية من الإبداعات، شاء أصحابها أم أبوا، محكومة بفكرة أن القارئ قد ارتقى إلى درجة صديق، وبدأ يقتحم منطقة أكثر خطورة هي درجة شريك في الكتابة، حيث صار يؤثر في توجهات الأديب حتى قبل أن يمسك بقلمه، ويضغط على مفاتيح الكيبورد.
ومثل هذه العلاقات واسعة النطاق، في حال وجود الآلاف أو الملايين من المتابعين غير المحددين، بيئة خصبة تتهددها بسهولة الأحكام العاطفية والمجاملات الودية واحتمالات الزيف والخداع والنفاق، ما يحد من خصوصية الكتابة وهدوئها، ويجعلها فعلا مكشوفا يخضع لحظيّا للعرض والطلب، ويقلل من فرصة اختلاء المبدع بذاته الصافية وتأملاته العميقة الخالصة من الضغوط والضوضاء.
خطورة الاستسهال
من أكبر مزايا انفتاح الأديب على قارئه تلمسه الشفيف لردود الفعل إزاء ما يقدمه من قصائد/ نصوص، واستشعاره الآني إلى أية درجة يتشارك معه الآخرون في الحالة التي عبّر عنها بالكلمات الحية الطازجة، القادرة على التأثير وإحداث حراك وتغيير.
هذا الأمر، على أهميته، ينقلب إلى النقيض، ما لم يجر استعماله بحساسية فائقة، وفي حدوده الطبيعية بلا مبالغة. فالقارئ، صديقا صار أم شريكا جزئيّا، ليس أهلا للتقييم النوعي، وأن الأحكام التي يطلقها من موقعه بالاستحباب والتهليل لا يجب أن تتحول إلى وسيلة غواية وإغراء للمبدع، فيلجأ إلى المزيد من إرضاء القارئ، متناسيا احترافية الأدب وعمقه وقيمه ومعاييره النقدية الرصينة، حتى وإن سلك مسلك التلقائية والبساطة.
الحديث عن النخبوية عبث بالتأكيد، ودعوة مضحكة للانفصام عن روح العصر وطبيعته، وأساليب النشر الراهنة، لكن في الوقت نفسه يبقى معيار التلقي وحده غير كافٍ لتأطير إبداع حقيقي مكتمل النضج، خصوصا إذا انجرف الأديب إلى مؤشرات التفاعل المضللة والزائفة، فصار لديه ذلك الاطمئنان القاتل بوجود نجاح جاهز مسبق، ما يدفعه تدريجيا إلى الركون للافتراض المخادع، والاستسهال في الكتابة، والسقوط في فخ السطحية.
مرايا كاذبة
في ميدان الإبداع، قد تكون المرايا الرقمية والكمية كاذبة، وغير مستوية في ما تعكسه من ظلال الواقع. فالشهرة مثلا، والحضور الشخصي والإعلامي، وأرقام التوزيع، ليست معايير جادة للتقييم الفني المجرد.
لم يكن الأديب الراحل نجيب محفوظ في دائرة الضوء لفترات طويلة قبل حصوله على جائزة نوبل، ولم يكن يُلتفت إليه إعلاميّا ونقديّا وتسويقيّا قبل تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية. ومقروئيته الضئيلة، في أوج نضجه وعبقريته، كانت مؤشرا لا يختلف في كذبه عن مؤشرات آخرين من كتّاب الرومانسية وقتها، الذين ملأوا الدنيا حضورا وضجيجا وتحطيما للأرقام القياسية في المبيعات، على الرغم من تواضعهم فنيّا.
في الوقت الحالي، تحظى الروايات الغامضة والبوليسية والخيالية والمثيرة، والقصائد الإنشادية العامية، بمتابعات تتجاوز إمكانياتها بكثير. ومن الجنون اعتماد حصول مؤلفات الشاب زاب ثروت الشعرية مثلا، وهو شاعر غنائي ومؤلف موسيقي، على أعلى مبيعات في معرض القاهرة الدولي للكتاب، مقياسا لوجود ظواهر أدبية في دواوينه من قبيل “أجندة” و”سلام”، وهو الذي تلقى حفلات توقيع كتبه الخاوية فنيّا تدافعا من عشرات الآلاف من الشباب.
بدورها، فإن القصائد والنصوص الحديثة المنشورة إلكترونيّا عبر مواقع الإنترنت وصفحات السوشيال ميديا ونماذج “الأدب الفيسبوكي” لديها كافة الفرص لفرض ذاتها بقوة على المشهد الأدبي، والاحتماء بالجمهور على المستوى الكمّي والتسويقي والإعلامي، لكن الرهان الأصعب هو الثقل الأدبي وجدية المضمون.
التواصل المباشر مع المتلقي يحيل الأدب إلى مجاملات عاطفية واطمئنان بوجود نجاح مهما تدنى مستوى العمل
هناك مئات المنصّات التي تنشر شعر “الهايكو” الرائج، على سبيل المثال، وتحظى بآلاف المتابعات والمشاركات، لكنها لم تفرز فلسفة واضحة لهايكو بمواصفات عربية، ولم تنج من التقليد والانتحال للوافد الياباني والأوروبي، ولم تبلور أسماء فاعلة في المشهد الإبداعي العربي.
هناك محاولات كثيرة أيضا لتوليد أنساق شعرية وإبداعية جديدة، من قبيل “الشعر المضغوط”، وقصيدة “النانو”، والأدبيات البرقية والتلغرافية، بما يلائم النشر عبر الشاشات الصغيرة وأجهزة التابلت والموبايل، وهذه النصوص تحطم الحواجز بين الأنواع الأدبية، وتجمع الشعر والقصة والفلسفة وما إلى ذلك في توليفة واحدة، متوسلة الحداثة كأسلوب وكمفهوم تجديدي.
وقد يجري تسويق هذه الألوان تجاريّا، كنصوص أمازون كندل، أو كمقاطع شعرية مسموعة تندرج ضمن نغمات الموبايل، شأنها شأن الأغنيات والتواشيح والأدعية الدينية.
وإلى جانب سعيها إلى تحقيق الانتشار، فإن هذه النماذج الإبداعية الرقمية، التفاعلية والميديوية، مطالبة بإثبات أحقيتها في الترسّخ وتحقيق إضافة إلى الفنون والآداب المعروفة، بتخطيها مرحلة المراهقة الفنية والخواطر الضحلة والبريق الظاهري، وانتهاج رؤى واسعة عميقة، وتأسيس ركائز وعناصر ملموسة لما يمكن تسميته بـ”شكل إبداعي جديد”، قادر على إثراء الذائقة وإشباعها.