إنتاج الحبوب: اختبار حدود الأمن الغذائي التونسي

اهتمام الرئيس التونسي قيس سعيد بشكل شخصي بقطاع الحبوب، وحثّ الحكومة ووزارة الفلاحة وكافة الأطراف ذات الصلة على تنميته رغم الصعوبات الكثيرة، ليس لكونه نشاطا كغيره من الأنشطة الأخرى لتحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود فحسب، بل لكونه جزءا أساسيا من رؤية إستراتيجية لتعزيز الأمن الغذائي ودعم الاستقلالية الاقتصادية في مواجهة التحديات العالمية.
هذا التوجه يعتبر أمرا بالغ الأهمية في ظل التحديات الاقتصادية والجيوسياسية التي تواجهها البلاد. فالتأكد من تأمين الإنتاج المحلي من الحبوب، الذي يمثل 13 في المئة من القيمة المضافة الزراعية، يعد خطوة أساسية نحو ضمان الاكتفاء الذاتي المستدام، الذي أصبح ضرورة ملحة أكثر من أيّ وقت مضى.
وبالنسبة إلى بلد يضم 12 مليون نسمة، تمثل الحبوب محورا إستراتيجيا للزراعة، وتشكل أساس النظام الغذائي للتونسيين، إذ يشكل الإنفاق الغذائي الأسري عليها 13 في المئة في المتوسط. بيد أن تركيز هرم السلطة على هذا المجال كان لافتا، وتحديدا خلال السنوات الثلاث الأخيرة مع ما أضافته الحرب في أوكرانيا من مشاكل، زيادة على تغير المناخ، والتي جعلت توفير الإمدادات من الأسواق الدولية أكثر صعوبة مع ارتفاع التكاليف.
بالنسبة إلى بلد يضم 12 مليون نسمة تمثل الحبوب محورا إستراتيجيا في قطاع الزراعة وتشكل أساس النظام الغذائي للتونسيين إذ يشكل الإنفاق الغذائي الأسري عليها 13 في المئة من الدخل في المتوسط
إن هذا النهج قد يسهم بشكل كبير في حماية الاقتصاد. أولا، من خلال تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب سيتم تقليل الاعتماد على الواردات التي تثقل الميزانية العامة. ثانيا، تعزيز الإنتاج المحلي سيساعد في توفير فرص عمل في الزراعة، مما يعزز التنمية الريفية ويحد من البطالة.
لكن الهدف الأكثر أهمية هو أن تحسين قطاع الحبوب يمكن أن يساعد في استقرار الأسعار المحلية ويقلل من تأثير التقلبات في الأسواق العالمية على الاقتصاد التونسي. وإذا تم تنفيذ هذا التوجه بشكل فعّال ودون تقاعس، باعتبار أن تونس لا تملك ترف التخلف عن تطوير إنتاجية المحاصيل مع التركيز على الابتكار وتحسين التقنيات، فإن ذلك يمكن أن يكون له تأثير إيجابي طويل الأمد للتصدي لتأثيرات الجفاف.
منذ ثمانينات القرن الماضي، وفرت السياسة الزراعية في تونس مجموعة من التدابير للتدخل في السوق الداخلية (إدارة، أسعار، إنشاء الأسهم العامة، الإعانات والحوافز الضريبية والمكافآت)، والتدابير الحدودية (تصاريح التبادل التجاري، الحقوق الجمركية وغيرها) لدعم قطاع الحبوب على وجه الخصوص. كانت تدابير الدعم هذه تهدف في البداية إلى ضمان الدخل الكافي واستقرار مزارعي الحبوب، والاكتفاء الذاتي للبلاد في ما يتعلق ببعض المنتجات، فضلا عن عرض أسعار معقولة للاستهلاك.
في الواقع، تطورت هذه السياسة لاحقا نحو استخدام الواردات كخيار لتلبية الاستهلاك المتزايد، رغم أن الدولة وضعت احتمالات لزيادة الإنتاج المحلي عندما كان عدد السكان أقل مما هو عليه اليوم. الآن، أظهرت هذه الخيارات حدودها في ضوء تدهور ميزان المدفوعات والموازنة العامة للدولة، في ظل ارتفاع أسعار منتجات الحبوب المستوردة، بدليل أن الميزان التجاري الغذائي سجل فائضا في عام 2024 بمقدار 427.6 مليون دولار.
لتفسير ذلك، نرجع قليلا إلى الوراء. فمثلا، بين 2008 و2018، بلغ الاعتماد على الواردات في المتوسط 57.3 في المئة من إجمالي استهلاك الحبوب. في السنة التي سبقت كوفيد، بلغ عجز توريد المنتجات الزراعية والغذائية 440 مليون دولار، ويرجع ذلك أساسا إلى الزيادة في واردات الحبوب من حيث الكمية والقيمة.
خلال تلك الفترة، تمت تلبية الطلب المحلي على القمح اللين بنسبة 84.21 في المئة في المتوسط سنويا من خلال التوريد. أما بالنسبة إلى القمح الصلب، فبلغت المشتريات الخارجية 40.7 في المئة، والشعير 50.8 في المئة.
يجب أن توفر إستراتيجية الدولة إجابات على مشاكل الإفراط في استغلال الموارد وتدهورها. ويجب، من ناحية أخرى، إعطاء الأولوية لحلول تكسر التبعية الغذائية للخارج والنماذج الزراعية القديمة
في مواجهة هذا الواقع غير المستدام على المدى الطويل، ولتحقيق أفضل إنتاج زراعي على الصعيد الوطني، وجهت الدولة نفسها من خلال خطتها الخمسية، من 2016 إلى 2020، نحو رؤية بيئية مشجعة عبر إدارة الإمكانات الطبيعية المتاحة مع وضع سياسات تحفيزية لتحقيق الهدف. ومع ذلك، فإن عدم وجود توجيهات واضحة بشأن التدابير التي يمكن اتخاذها لتنمية إنتاج المحاصيل لم يسمح بالتنفيذ الفعّال لهذه الرؤية الإستراتيجية.
لا يمكن إخفاء حقيقة أن تونس تعاني من نقص منتظم في المياه السطحية وتأثير ذلك سلبا على إنتاج الحبوب، رغم الأمطار التي سجلت بكميات جيدة هذا الموسم. كانت الدولة ملزمة منذ الموسم الماضي بتقليص المساحات المروية مع تقنين الموارد الموجهة إلى الري التكميلي. وهذا قد يكون عاملا له نتائج عكسية في إنتاج الحبوب، مما سيؤدي إلى الإفراط في استغلال الموارد المائية الجوفية وتدهور نوعيتها.
يجب أن توفر إستراتيجية الدولة إجابات على مشاكل الإفراط في استغلال الموارد وتدهورها. ويجب، من ناحية أخرى، إعطاء الأولوية لحلول تكسر التبعية الغذائية للخارج والنماذج الزراعية القديمة، إذ أن متابعة سياسة السيادة الغذائية تعني بالتالي إعطاء الأولوية للإنتاج الزراعي المحلي لإطعام السكان.
ومن ثم، فمن الضروري إعادة التفكير في نموذج التنمية الزراعية عبر العمل بجهد أكبر على تحقيق السيادة الغذائية وضمان الأمن المائي في تونس. فلا خيارات أخرى أمام التونسيين اليوم إلا هذا الطريق.
قد تكون تونس أفضل من غيرها في بعض النواحي المتعلقة بإنتاج المحاصيل، بالرغم من التكاليف الباهظة وقلة الدعم الحكومي وتغير المناخ. يكفي أن نتلمس ذلك من خلال توفر ما يكفي من السلع في السوق وعمل المصانع الغذائية، لندرك أن منتجي الحبوب لديهم أمل في رؤية هذه الزراعة تزدهر مهما كانت العراقيل. في اعتقادي، يمكن تجاوزها فقط إذا كانت ثقافة العمل هي السائدة، حتى نتجاوز جميعا هذه العاصفة.