أنس البرايحي فنان سوري يجترح وصفات لونية ضد التلاشي

يعرض الفنان التشكيلي السوري أنس البريحي مجموعة من أعماله الجديدة تحت عنوان “أمنا الأرض” في صالة “أجيال” البيروتية، مُستكملا ما بدأه في معرضه الأخير في الصالة نفسها، وذلك منذ أكثر من سنة.
بيروت- في معرضه الجديد “أمنا الأرض” المقام حاليا في صالة “أجيال” بالعاصمة اللبنانية بيروت، يستمر الفنان التشكيلي السوري أنس البريحي في اجتراح وصفات لونية ضد التلاشي.
استمرارية طقوسية انطلقت من ثيمة معرضه السابق الذي أقامه البريحي منذ عام في ذات الصالة، والذي تناول فيه حالة الاستسلام إلى النوم كبوابة إلى عالم حقيقي أكثر عذوبة من الخيال.
أطلق الفنان السوري آنذاك على المعرض عنوان “صائد الأحلام”، مقدّما نماذج عديدة من حالات “صيد” موفّقة، تمثلت في شبان مستسلمين إلى النوم بعد شقاء نهار طويل تحت أغطية هائلة ومزركشة وملونة ومستوحاة من ثياب النساء في مدينته السويداء السورية.
أما اليوم، فعلى ما يبدو أن البريحي عثر على مفتاح البوابة المفضية إلى ما ترصّده في معرضه السابق، أي المفضي إلى العالم المحلوم والواقعي جدا، لأنه مبني على مشاهدات من مدينته التي عاد إليها ليراقب موسم الحصاد والقطاف في الحقول والبساتين. كأفعال صلاة تمجد الحياة وكل ما تكتنز من أحلام وأمان ظلت نابضة في أراض زراعية تعرضت لأشد أنواع التنكيل خلال الحرب السورية.
لوحتان مفصليتان
في المعرض، الذي ضم 25 لوحة زيتية بقياسات معظمها كبير وعدة رسومات أولية بالفحم، لوحتان مفصليتان. الأولى مفصلية لأنها اللوحة الأم، والثانية لأنها العالم الزخم المفتوح على مصراعيه والمُفصل في اللوحات الأخرى الموجودة في المعرض.
اللوحة الأولى تشبه لوحاته السابقة وهي لأحد الشبان في غفلة النوم العميق، ولكن هذه المرة جاء التركيز الأكبر على الغطاء المتفجّر الذي يلتحف به، وسط ألوانه الزاهية والممدودة كحقل واسع في أبهى صورته “الثمرية” والمُزهرة.
وأخذ هذا الغطاء الجغرافي الملامح القسم الأكبر من قماش اللوحة، ليكون هو الموضوع وهو الانطلاقة إلى اللوحات الأخرى.
أما اللوحة/ المفتاح الثانية، فقد تصدرت الطابق الأول من الصالة، وهي الوحيدة من بين اللوحات التي أعطاها الفنان عنوانا يتحدّث عنها وهو “أم الغيث”.
أنس البريحي في معرضه الجديد وجد المكان.. مكان الحلم الذي انبعثت منه نتف الأحلام وانبثاقات الطبيعة ومظاهر استدعاء الحياة. يحدثنا الفنان عن هذه اللوحة وهي تمثل نساء وأطفالا يتجمهرون في حضن الطبيعة، ليتصلوا بمناجاة “أم الغيث” التي تحضر المطر وتخصّب الأرض وتنعش الحياة.
في اللوحة تحمل النسوة وبعض الأطفال ألعابا خشبية مرفوعة على أعواد ومشحونة بأجواء الأهازيج المسيطرة على كل نواحيها. نواح خافقة بكل ألوان الأرض المعلومة عند البشر.
واللوحة بكل تأكيد مستمدة من أسطورة عشتار وآلهة الخصوبة والإيمان بقوة المرأة الولاّدة لكل أشكال الحياة، ويُطلق على هذه الآلهة اسم “أم الغيث”، ومن هنا جاءت تسمية اللوحة.
وإن كانت اللوحة الأولى هي الكاشفة لسر العثور على الأرض المحلومة، فاللوحة الثانية هي والدة جميع اللوحات التي هي مجموعة احتفالات انشغلت فيها النسوة بأعمال يدوية، كغسل الأرض المحيطة بالحقول والمتاخمة للمنازل الريفية ونشر الغسيل والجمع في السلال والقطاف والحصاد، ونزع الحشائش الضارة.. ولعب في هذه اللوحات اللون الأصفر الفاقع الدور الأصيل.
ويقول أنس البريحي مشيرا إلى عدة لوحات بحجم صغير ومشغولة بمادة الفحم إنها مستوحاة من أعمال الفنان الفرنسي جان فرانسوا مييه، كتحية له، وهو الذي انكب على رسم انشغال الفلاحين في زراعة الأرض وحراثتها وقطافها.
لكن، وإذا كان في لوحات جان فرانسوا مييه الكثير من أجواء العمل المضني، فلوحات البريحي يبدو فيها العمل في الأرض ضربا من ضروب الفرح والانغماس في طقوسه الشعرية.
العالم الحلم
تذوب أجساد النساء في الطبيعة في العديد من اللوحات وتحلّ فيها، حتى يسأل الناظر إلى اللوحات: من هو الحاصد وما (أو من) هو المحصود؟
وذكرتنا رحلة عبور أنس البريحي إلى الضفة الأخرى من العالم السحري/ الواقعي بفيلم “الأحلام” للمخرج الياباني كوراساوا، وتحديدا في الفصل الذي صوّر فيه المخرج دخول
أحد طلاب الفنون التشكيلية إلى قلب لوحات فينسنت فان غوخ الملونة، فالعثور على الفنان والتحدّث معه حول لوحاته.
أنس البريحي هو أيضا هذا الطالب الذي بحث، فوجد، فدخل إلى غمار العالم الملون المنسوج بأنامل النسوة في مدينته السويداء. مثله، جال هناك مُلاحقا ذاته ورؤاها، كلحاق الطالب بالفنان الهولندي فينسنت فان غوخ قبل أن يضيّعه في حقول لوحاته باحثا عن الشمس.
غير أن البريحي عاد من الضفة الأخرى. وكما ذكرنا آنفا، بعد أن تخطّى عتبة النوم، ليأخذنا إلى العالم المحلوم، ولكن ليس ليضيع مثل طالب الفنون في آفاق لوحات فينسنت فان غوخ، بل ليعود غانما مجموعة لوحات تخبرنا عن رحلته الخاصة جدا في العالم الذي اكتنزته أغطية الصوف “الحقلية” التي تغطى بها النائمون في لوحاته السابقة.
يُذكر أن الفنان السوري أنس البريحي مولود سنة 1991. درس الفنون في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق قبل أن يتوجه إلى دراسة الماجستير بالجامعة اللبنانية في حقل الفن والدعم النفسي والاجتماعي، وهو مستقر في لبنان حيث يقيم مرسمه.