أمكنة مشتركة

استطاع الأب جاك لوفرا أن يجعل من مكتبة لاسورس إحدى أهم المكتبات بالبلد. وكان توفقه في ذلك مدينا لصورته المحترمة كصديق للمغرب الثقافي.
السبت 2019/03/30
صور مختلفة لفضاءات الحوار والتسامح

زرت قبل فترة دير تومليلين القريب من مدينة أزرو المغربية. وأرعبني اليباب الذي اجتاح المكان، بعد أن كان، خلال خمسينات القرن الماضي، حافلا بالحياة. هنا استطاعت مجموعة محدودة من الرهبان خلق تجربة فريدة على مستوى العيش المشترك والحوار مع الآخر، خلال لحظة اتسمت باحتدامها، بحكم سياق الاحتلال الفرنسي للبلد.

إذ لم يمنع انتماء الكنيسة إلى ضفة الآخر، وهو العدو في هذه الحالة، من أن تنتصر للمغاربة ولقضيتهم. ولذلك، لم يكن غريبا أن يشكل المكان موئل الوطنيين المغاربة، ومنهم من كان مبحوثا عنه من طرف سلطات الاحتلال. وتشير مجمل الأدبيات التي تؤرخ للدير إلى قصة تقديم دونيس مارتان، أحد رهبان الدير، الشاي لمعتقلين سياسيين مغاربة كانوا يقومون بأعمال إجبارية، في تحد للقائد العسكري للمنطقة، والذي سيُقدم على ترحيل المعتقلين إلى أقصى جنوب البلاد، انتقاما من شاي دونيس مارتان.

سنوات بعد إقفال دير تومليلين، سيختار أب آخر، صديق للمغرب، وهو جاك لوفرا، باتفاق مع الكنيسة، فتح مكتبة لاسورس بالرباط أمام الباحثين المغاربة. وقد تم الاعتماد في تكوين رصيدها على ما كانت تضمه مجموعة من المكتبات التي كان قد أنشأها أفراد من الجالية الفرنسية بالمغرب، خلال مرحلة الاستعمار. وهو الأمر الذي شكل قوة المكتبة، خصوصا مع احتوائها على أغلب ما كُتب عن المغرب وثقافته ومجتمعه وتاريخه.

 واستطاع الأب جاك لوفرا أن يجعل من مكتبة لاسورس إحدى أهم المكتبات بالبلد. وكان توفقه في ذلك مدينا لصورته المحترمة كصديق للمغرب الثقافي، وأيضا لوضعه كباحث مهتم بقضايا الحوار الإسلامي المسيحي. إذ كان قد ناقش رسالته لنيل الدكتوراه في موضوع “تجربة حوار، مراكز البحث المسيحية في العالم الإسلامي”، بالإضافة إلى إصداره الشهير “قوة الحوار”.

ولا تبدو هذه الحالات منعزلة، حيث يواصل، على سبيل المثال، المعهد الدومنيكاني بالقاهرة، منذ أربعينات القرن الماضي، عمله كفضاء للحوار ولدراسة الإسلام، من أجل فهمه، بعيدا عن أي هدف تنصيري، وذلك خصوصا من خلال مكتبته الحافلة بمئات المخطوطات العربية. مع العلم أن مِن بين مَن توالى على إدارته الأب جاك جومييه، المعروف عنه أنه أول من قدم ثلاثية نجيب محفوظ للأوروبيين.

إنها صور مختلفة لفضاءات الحوار والتسامح، التي يمكن أن تجمع حولها الأديان والشعوب والأفراد. إذ تكاد دلالات تقديم الشاي من طرف الأب دونيس مارتان لمعتقلين سياسيين مغاربة توازي ما قامت به جاسين أرديرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا، بعد المجزرة التي مست البلد ومسلميه. وتلك هي الرسالة الأقوى ضدا على العنف الذي صار جزءا من حياة الكثيرين. يستيقظون عليه كل صباح، حيث ينسون أن يرسموا على شفاههم ابتسامة صغيرة، كما لو أنهم في حرب أهلية.

14