"أمر واقع".. بين أوجاع الإرهاب والتعايش مع مفارقاته

القاهرة- تجتهد الدراما الرمضانية المصرية هذا العام في محاولة تلافي الكثير من أخطاء التجارب السابقة وتمد أفكارها لمناطق أبعد ممّا اعتاد الكتاب الدخول فيها، مناطق تكشف الكثير من الجوانب الخفية عن قضية الإرهاب التي ظلت غامضة دراميا، ولم نعرف عنها في معظم الأحيان إلاّ اللحية الكثيفة والجلباب الطويل والصوت العالي ولغة الإرهابيين الغليظة.
وهذا العام نجد إرهابيين ورجال أمن بسمات شكلية وإنسانية مختلفة، لكن تظل المعضلة كامنة في أن شعبية نجوم الكثير من هذه الأعمال أكبر وأهم عند المشاهدين من القضية نفسها، ما يجعلها على الهامش، وتتوزع اهتمامات المشاهدين بينها وبين أشياء أخرى، مثل خفة ظل البطل ووسامته أو تكوينه الجسماني وأدائه للقطات “الأكشن” دون التركيز اللازم على قضية العمل.
مصداقية الطرح
الكثير من النجوم الذين شاركوا في الدراما التلفزيونية المتعلقة بالإرهاب هذا العام تناولوا معالجات سابقة لها في أعمال سينمائية عرضت من قبل، ما أعطى إحساسا بالتكرار، لا سيما مع الاهتمام المفرط بإبراز قوة البطل وملحمية أدائه ومثاليته المفرطة في دور رجل الشرطة، وهو ما أثر على مصداقيتها، تلك المصداقية التي تأثرت بتحوّل بعض المسلسلات إلى ما يمكن تسميته معارك ثأرية بين بطل العمل والإرهابيين، انتقاما لثأر شخصي وليس بدافع وطني، بالإضافة إلى حجم الأخطاء الفنية التي رصدت من الجمهور، رغم الميزانيات الضخمة وتوافر الإمكانيات المادية والفنية، لذلك تحوّلت بعض المشاهد إلى لقطات كرتونية لا تحترم عقول المشاهدين.
ووسط هذه الزوبعة الدرامية نجد مسلسل “أمر واقع” يسير بهدوء ملفت نحو هدفه، وهو مناقشة قضية الإرهاب بصورة ذات طابع إنساني واقعي، بلا مشاهد دموية منفرة أو لقطات حركية (أكشن) مبالغ فيها، وهو يعرض على شاشات عدد من الفضائيات المصرية والعربية، ما يساعد في تحقيق انتشار كبير له. ويقوم ببطولة مسلسل النجم المصري الشاب كريم فهمي، عن نص استفاض كاتبه المؤلف محمد رفعت في سرد اللقطات الإنسانية التي تجعله أوفر حظا عند الجمهور، ما أجبر أبطاله على التواري خلف النص، وساهمت في هذا التواري الرؤية الجيدة للمخرج محمد أسامة الذي منح اهتمامه للورق وترجمته لصورة منضبطة، دون سير وراء البريق الزائف لنجومية بعض الأسماء، لأنه كفيل بالتشويش على رؤيته الفنية.
ويركز العمل على فكرة الأمان المفتقد في الشارع المصري، نتيجة العمليات الإرهابية التي لا تفرّق بين مدني وشرطي، الجميع ضحايا له ويخشونه بدرجات متفاوتة، الكل يحاربون شبحا، ولا يعرفون من أين يظهر لهم ولا من سيكون؟
وتدور أحداث مسلسل “أمر واقع” حول الضابط “حمزة” الذي يؤدي دوره كريم فهمي، يلقى طفلُه مصرعَه وهو بعيد عنه في مهمة عمل، وتفقِد زوجته في هذه اللحظات الحرجة القدرة على الوصول إليه، لأنه أصيب في المهمة.
وبعد هذه الحادثة يقرّر الضابط أن يترك عمله في مكافحة الإرهاب وينتقل إلى العمل في سلك شرطة المرور، لكن يظل لديه شعور جارف بأنه خذل نفسه كرجل أمن بهذا الاختيار.
“حاسس إني هربت من المسؤولية وإني جبان وأناني”، جملة حدّث بها البطل رئيسه السابق في العمل في مكافحة الإرهاب، وهو الضابط “عمر” الذي يقوم بدوره أحمد وفيق، والجملة تعكس عقيدة الكثير من رجال الشرطة في مصر، هؤلاء الرجال الذين ظهروا في العمل كشهداء أحيانا ولهم أطفال تيتّموا، أو مصابون يطاردهم الموت في الكثير من اللحظات، أو أبناء لأسر هم كل حياتها، أو آباء في أسر انهارت نتيجة طبيعة عملهم، وفي لقطات موجعة نراهم يقدّمون العزاء لبعضهم البعض.
يقرّر الضابط حمزة أن يعود إلى شغله في مكافحة الإرهاب، وهو القرار الذي يدفع بحياته الزوجية إلى الجحيم، إذ ترفض زوجته الفنانة نجلاء بدر هذا القرار، من هنا يبدأ صراع البطل لاسترداد شرفه الوطني -كما يعتقد- دون أن يفقد أسرته.
ورغم أن هذا هو المحور الرئيسي للعمل فإن النص يعرج برشاقة على علاقة الصحافة والإعلام بالأمن وبالناس، ويتناول محاور عديدة في هذه العلاقة، وهي علاقة شديدة الحساسية بالفعل في مصر وحولها علامات استفهام كبيرة والنص يقتحمها بجرأة ملموسة وانحياز واضح للرأي القائل بخذلان الإعلام للمصريين في حربهم ضد الإرهاب، كما جاء على لسان الفنان نبيل الحلفاوي الذي جسد كضيف شرف شخصية أستاذ جامعي في الإعلام، والذي قال “الإعلام شال (نزع) أي إحساس باليقين لدى الناس في معركة بلدهم وحوّله إلى وباء من الشك، الإعلام أصبح سلاحا حقيقيا للكراهية”.
بعيدا عن السذاجة
يتحرك “أمر واقع” بحرية ملحوظة في مناطق شائكة ويراهن من خلال اختيار بطله كريم فهمي الذي يتمتع بشعبية واسعة بين الشباب -وهم الفئة الأكثر استهدافا من قبل الإرهابيين لتجنيدهم والسيطرة على عقولهم- على تمكّنه من التحاور المثمر دراميا معهم بلغة سهلة عبر الشاشات الصغيرة بسهولة، خاصة أنه يتصدى لقضية الإرهاب للمرة الأولى في أعماله بفكر ولغة أنسب إلى فئة الشباب وأكثر حيوية.
وتتنوع أعمال كريم فهمي الفنية بين التأليف لأفلام ومسلسلات يغلب عليها الطابع الكوميدي والاجتماعي، ويخوض في “أمر واقع” تجربة جديرة بالمزيد من الاهتمام، لأنها تقول الكثير بلغة درامية متعقلة ومقنعة إلى حد بعيد، كما أن أداءه لدور الضابط شديد السلاسة والبساطة، ويقف بجواره في العمل عدد من النجوم المخضرمين والشباب في توليفة ممتعة.
ولا تحتاج القضايا الكبرى عند مناقشتها دراميا إلى ميزانيات ضخمة وأسماء كبيرة ونصوص مفصلة على مقاسها، بل تتطلب أفكارا إنسانية تجعل هذه الأعمال صورة أو مرآة لحياة المشاهدين يرون فيها أنفسهم وتناقش قضاياهم بلا سطحية أو سذاجة وهو ما حصل في “أمر واقع”.