أقنعة الاحتجاجات الوجه الحقيقي للمجتمعات الثائرة

المحتجون يرتدون وجوها متمردة للتعبير عن الوحدة وتحدي السلطة والتعبير عن المطالب دون خوف من أحد.
السبت 2019/11/23
عندما يرتدي أحدهم قناعا، يصبح شخصا آخر

الاحتجاجات هي كفاح من أجل أن تسمع وتسمع في مجتمعات سمتها الرئيسية إخفاقات متتالية للأنظمة الحاكمة في توفير الحياة المناسبة للمواطنين، لكن ما ميز الاحتجاجات الأخيرة التي تنتشر في العالم هو ارتداء أقنعة. وقد باتت هذه الأقنعة رمزا للانتفاض ضد الظلم.

اتسمت الاحتجاجات التي شهدتها دول مؤخرا، بتبنيها ظاهرة مشتركة، تكمن في الوجوه التي ارتداها المتظاهرون، حيث اختاروا في العاصمة اللبنانية بيروت والعاصمة العراقية بغداد وفيكتوريا عاصمة السيشل وسوكري عاصمة بوليفيا، أقنعة استخدمت في أعمال فنية حققت شهرة كبيرة، كان أبرزها وجه “سلفادور دالي” في المسلسل الإسباني “كاسا دي بابل” وقناع “الأناركيا” في الفيلم الأميركي “فانديتا”، وأخيرا قناع المهرج في الفيلم الذي صدر حديثا “جوكر”.

وقد تشارك الغاضبون في الأقنعة الثلاثة دون أن يجمعهم اتفاق أو قرار أو توجيه معين، وأضحى المشهد المتكرر من بلد إلى آخر أشبه بنمطية تعبر عن التوجه السياسي العام للمحتجين، الخاص بمحاولة الهدم الكامل للنظام، ليس انطلاقا من منطق أيديولوجي معين يمنح أولوية لذلك عند الرفض التام للنظام الحاكم ويرفع من معنى الفوضى الخلاقة المتداولة منذ فترة، لكن رغبة في قناعة تؤكد ضرورة التخلص من الطبقة الحاكمة ورفض إعادة تدويلها، لأنها السبب الحقيقي في الأزمات المتراكمة.

وتبقى الاحتجاجات آلية كفاح من أجل أن تستمع النخبة إلى المهمشين وتراهم.

وتبرز جماليات الاحتجاج في عناصر مثل الأقنعة واستخدام الألوان والفن والرموز والشعارات والملابس والكتابات التي يتم التقاطها في الصور ومقاطع الفيديو لمشاركتها عبر منصات التواصل الاجتماعي. وتميل وسائل الإعلام الرئيسية إلى التركيز على الصور الدرامية والكرنفالية لأنها تدرك أن هذا يولد الاهتمام. من جهتهم، يعلم المتظاهرون ذلك ويدركون أهمية هذا الاهتمام لحشد الدعم. وتساعد الأقنعة على استقطاب العنصر الإعلامي، مما يضمن استمرار أفكار المتظاهرين لفترة أطول وبثها على شبكة أوسع.

طريقة كفاح

Thumbnail

تمثّل الأقنعة وسيلة لتعزيز الهوية المشتركة مع الآخرين وإيصال صوت واحد ضد عدو محدد.

كما تساعد الأقنعة المتظاهرين على إظهار تضامنهم مع بعضهم البعض، وأصبحت لغة مشتركة للمعارضة في العالم.

تتحدث هذه الأقنعة نيابة عن المحتجين. ويستخدم المحتجون هذه الأقنعة كوسيلة لبناء ثقافة مضادة وللتعبير عن الوحدة وتحدي الموجودين على رأس السلطة.

كما تعتبر الأقنعة شكلا من أشكال التعبير عن النفس، فهي الوجه الذي نختار إظهاره للآخرين. وقد استخدم الإنسان الأقنعة منذ آلاف السنين لأغراض متنوعة تمتد من الطقوس الدينية إلى العروض المسرحية ومن التسلية إلى الحماية والتخفي.

كما استخدم المتظاهرون الأقنعة منذ فترة طويلة، فهي تساعدهم على التعبير عن مطالبهم دون خوف من أحد.

ويعدّ ارتداء القناع مفيدا في الأنظمة الاستبدادية، ويخفي هوية أولئك الذين يخرجون إلى الشوارع عن أي شخص يمكن أن يلاحقهم ويضر بهم لآرائهم.

وبالإضافة إلى إخفاء هوية الأشخاص، تمتع الأقنعة أصحابها بميزة التحوّل إلى الشخص الذي يختارون تقمص وجهه. وتوفر لهم بذلك فرصة ليكونوا أكثر شجاعة وقوة في المواجهة مع القوى السياسية. ويقول خبير “عندما يرتدي أحدهم قناعا، يصبح شخصا آخر”.

ولكن، رغم ذلك تبقى الوجوه والأجساد ضعيفة وراء القناع الذي لا يستطيع حمايتها من عنف الدولة.

ثلاث قصص ومطلب واحد

ليس سهلا إيجاد رابط مباشر بين الأقنعة والأعمال الفنية الثلاثة، لكن الغضب والرفض والفوضى المشتركة توجده بشكل غير مباشر، حيث مثلت الأفلام تلك الرغبات الدفينة.

في “فانديتا” دار العمل حول الرغبة البشرية في الثورة على كل شيء بصورة لا تنجح دون خلق انقلاب فوضوي مُثل في تفجير مبنى البرلمان. وقدم مسلسل “كاسا دي بابل” قصة حول لصوص يسرقون البنك المركزي اعتراضا على سياسة الحكومة الاقتصادية، ليتحولوا في نظر العامة إلى أيقونة أقوى من أحزاب المعارضة. وفي “جوكر” كان الفقر المدقع، وألم البحث عن حياة كريمة وخدمات صحية ووظيفة، كافيَيْن لتعاطف الملايين مع قصة مواطن عادي تحول إلى مجرم وقاتل سيكوباتي، ثم إلى رمز يقود “ثورة مجرمين جائعين”.

باتريك ستريكلاند: الأقنعة في الاحتجاجات طالما حملت رسائل عميقة وخطيرة حول مستقبل الحراك الشعبي في الشارع
باتريك ستريكلاند: الأقنعة في الاحتجاجات طالما حملت رسائل عميقة وخطيرة حول مستقبل الحراك الشعبي في الشارع

تختلف القصص الثلاث في الآلية والتنفيذ، لكنها تتفق في مطلب واحد، وهو الانقلاب على النظام الرأسمالي الجشع. ولم تكن الأقنعة الثلاثة ثورية بالأسباب والدوافع والبراهين، غير أنها قدمت طروحات مختلفة ودعوات متعددة لهدم النظام العالمي، والحث على أهمية تغييره، وهو ما وجد استعدادا ظهر في الإقبال الكبير على هذه الأعمال.

قال الكاتب الأميركي باتريك ستريكلاند، وهو مؤلف كتاب “إنذار إنذار: لقطات من مواجهة الفاشية في العالم” الذي صدر العام الماضي، إن الرموز والأقنعة في الاحتجاجات طالما حملت رسائل عميقة وخطيرة حول مستقبل الحراك الشعبي في الشارع، قد تكون قادرة على التنبؤ بما يمكن أن تؤول إليه الأمور مستقبلا، خطورة المسألة في أن العالم مقدم على حافة الهاوية”.

وأوضح ستريكلاند في تصريح خاص لـ”العرب”، أن النظام الرأسمالي المتوحش وسياسة الليبرالية الجديدة غذيا الفكر الراديكالي في دول كثيرة، بعد أن فقد الناس عموما إيمانهم بكون تلك الأنظمة مفتاح تحسن بلادهم وأمور حياتهم اليومية.

وأشار ستريكلاند إلى أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والعالم في انتظار نهضة قوية تصاحبها حياة كريمة لمواطنيها واتحاد وحكومات تحترم حقوق الإنسان، لكن بعد أكثر من 60 عاما وجد المواطن الذي يعيش في الغرب أو الشرق نفسه أمام صراع دائم مع الحياة بحثا عن قوت يومه من أجل عيش حياة متوسطة أو أقل، ما جعله راغبا في تغيير تلك السياسة العالمية واستبدالها بأخرى تقدم ما يتمناه.

تميل الكثير من الأبحاث إلى الربط بين التغيرات العالمية الحالية من صعود اليمين المتطرف والجماعات الدينية المتشددة وبين تلك النزعة الاحتجاجية الواسعة.

وتعد تلك النزعة نتاجا كاملا للآثار الجانبية السيئة للنظام الرأسمالي العالمي الحالي، تماما كحركة السترات الصفراء الفرنسية، ومن ثم فإن النجاح الانتخابي للأحزاب اليمينية المتطرفة ذات الشعارات الشعبوية التي تميل إلى الهدم الكامل من أجل الإصلاح مثال احتجاجي أيضا.

يسير نهج المحتجين حول العالم مع خصائص محددة ومشتركة، أهمها أن الاحتجاجات في الأغلب بلا قيادة سياسية محكمة قادرة على توحيد صف المحتجين والتركيز على مطالب واضحة، والأهم كبح جماح المتظاهرين وأشكال الفوضى المصاحبة.

وتتشارك الاحتجاجات في كون تنظيمها الحقيقي وطريقة شحنها للأفراد نابعَيْن من مواقع التواصل الاجتماعي التي بدت القائد الحقيقي والوحيد للاحتجاجات منذ انطلاق موجة ثورات الربيع العربي في مصر وتونس وسوريا وليبيا قبل ثمانية أعوام، ونتجت عنها أشكال متنوعة من العشوائية السياسية والاجتماعية ذات النتيجة السلبية بشكل عام.

يفسر متابعون تلك النمطية المكررة بأنها فرضية أخطر جعلت البعض يجد في أفلام هوليوود مثل مسلسل “كاسا دي بابل” رمزية وفلسفة لثوراته، لكن في الحقيقة أضفى ذلك المزيد من الفوضى والعشوائية في التحرك الشعبي أو المطالب. فغياب الفلسفة المحركة قدم أفكارا هدامة وعنيفة منعدمة الرؤى، كحرق الأماكن الحكومية أو الإصرار على إقالة الحكومات دون تقديم بديل أو حلول عملية للمستقبل.

لم يتوقف دور منصات التواصل عند الشحن الجماهيري وتشجيع التظاهر، لكنها صنعت رونقا خاصا للأقنعة التي يرتديها المحتجون.

إستراتيجية روبن هود

تميل الصورة إلى ما يشبه التعلق النفسي والعاطفي بشخصية بطل العمل غير الحقيقي ونجاحه منقطع النظير في الوصول إلى أحلام المشاهد عبر سرد افتراضي ينتهي بانتصار البطل والانتقام من الدولة ورموزها.

يقول خبراء نفسيون إن حالة التعلق الشديد بأبطال الأعمال، أو ما يسمى بـ”التناغم الضبابي”، هي ظاهرة تنشأ من غياب العدل والشعور بالظلم والقهر وقلة الحيلة، ويصبح هناك اختلاط في المفاهيم والمبادئ الأساسية للحياة، ومنها احترام الحقوق والحفاظ على الكيانات وغير ذلك من المبادئ المعروفة مسبقا.

قدمت ظاهرة “التناغم الضبابي” حالة التعلق الفريد بالأفلام والمسلسلات التي تمجد الشر، وتضفي تعاطفا مع المجرمين والقاتلين، وتقاربا بين الدوافع وآراء هؤلاء وبين المواطن العادي الذي يعيش حياة مماثلة، ويتحول البطل المجرم في العمل السينمائي إلى انعكاس للمشاهد والمنفذ لرغباته، والأهم المنتقم له من عدوه الأساسي وهو الحكومة.

وصف الباحث الاقتصادي والأكاديمي الهندي راغورام راجان الحالة الجديدة التي يعيشها العالم بـ”إستراتيجية روبن هود”، وهي قصة تراثية تتحدث عن لص يسرق الأغنياء ليعطي الفقراءَ مسروقاته.

تبدو فكرة روبن هود جامعة للأعمال الفنية الثلاثة بأقنعتها الشهيرة، لأن القصص قدمت صورة متعاطفة مع المجرمين، وأعطتهم زخما ثوريا وفسرت أفعالهم كنتيجة لسياسة الحكومات الفاسدة التي عصفت بالخدمات الأساسية للحياة، كذلك زادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء بصورة تلمس آلام وغضب المشاهدين الساخطين على الأوضاع القاسية لظروف الحياة الحالية.

Thumbnail

بات كل متظاهر باختلاف ثقافته السياسية، يرى في نفسه “روبن هود”، المستعد للإقدام على فعل أي شيء مهما كانت عواقبه في سبيل تحقيق العدالة التي ينشدها، ومحاربة الفساد عن طريق الفوضى.

يقدم خبراءٌ النظامَ العالمي الحالي في شكل مبنى هندسي قائم على ثلاثة أعمدة رئيسية؛ الأول سياسي، وهو الدولة أو الحكومة المركزية، والثاني اقتصادي، وهو الأسواق، أما الثالث فهو المجتمع.

تعمل الأعمدة الثلاثة بشكل متواز من أجل تحقيق أهداف الرأسمالية المتمثلة أساسا في خلق مجتمع حركي متماسك ومتشابك مع سوق تنافسية مبدعة.

وأكد راجان أن ما يحدث حاليا من تطورات غير مسبوقة يهدد استقرار العالم، ويؤدي إلى الإخلال بتوازن النظام العالمي نتيجة إهمال المسؤولين للجانب العاطفي والاجتماعي، أو العمود الثالث، “النظام الرأسمالي أهمل أهم جانب في إدارة شؤون البشر، وهو الإنسانية”.

وتعكس مطالب الاحتجاجات الأخيرة في الدول المختلفة تلك الفكرة، لأن أغلب محركات التظاهرات جاءت متعلقة بقرارات اقتصادية تقشفية أو لرفع الضرائب أو لوضع المزيد من اللوائح الاجتماعية القاسية، دون اكتراث بتخفيف الظروف الاجتماعية الصعبة عن الطبقات المتوسطة.

نتج عن ذلك شعور عام بالاحتقان والسخط، لأن القرارات الاقتصادية المتتابعة لسنوات لم تؤت ثمارها الجيدة على صعيد تحسين المستوى المعيشي أو رفع الهموم عن المواطنين.

يبقى الخطر الحقيقي في النهاية متعلقا بما تعكسه الأقنعة ورؤى التظاهر من ضبابية، فطالما ظل الاحتجاج بلا مطالب تصاحبها حلول، تبقى النتيجة الحتمية المزيد من الفوضى والعنف.

20