أفنان شاهر.. فنانة مصرية تتوحّد مع الروح عبر رقصة المولوية

تعوّد عشاق المولوية التفاعل مع حركات الجسد الراقص في دورانه المستمر دون أن يكل الرجل من الدوران ولا العين التي ترقب ذاك الدوران، فتحصل المتعة للاثنين، الباث والمتلقي، فكيف يكون الحال مع راقصة هذه المرة احترفت المولوية وأتقنت حركاتها حدّ التوحّد مع الروح. هنا حوار لـ"العرب" عن الصوفية وفنونها مع أفنان شاهر أول راقصة مولوية مصرية.
القاهرة- محبو الرقص يدركون جيدا قدرته على عقد مصالحة حتى إذا كانت مؤقتة بين الروح والجسد، التناغم والتمايل على نغمات معينة تحرّر الجسد من تخشبه المعتاد، وتطلق فيه طاقة مفعمة وراحة، لكن أن تتجاوز تلك الراحة العلاقة بين الروح والجسد، وتعقد مصالحة أكبر بين الذات والكون، أن تصل بشخص إلى حالة روحانية وزهد وصلة مع الله، فهذا ما اختبرته الفنانة المصرية أفنان شاهر في رحلة طويلة تعجّ بالمصادفات.
“العرب” التقت شاهر خلال إحدى حفلات فرقة “روح” للإنشاد الصوفي في رمضان الحالي بالقاهرة، ولم تكن الحفلة كما ينبغي بالنسبة إليها، إذ تحتاج المولوية إلى أرض ثابتة كي يستطيع المولوي الأداء دون معوقات أو مخاطر، فيما كانت الحفلة في حديقة.
وأدّت الفتاة المصرية للمرة الأولى رقصتها في بيئة غير مهيئة، ومع ذلك استطاعت أن تذوب لكن بذوبان غير تام، تندمج لكن المعوقات تحول دون الانعزال، القلق على قدميها، الخوف من موضع النزول القادم.

أفنان شاهر: المولوية لا يمكن أن يؤدّيها غير زاهد، وهي رحلة صعبة لكنها مريحة
جلسنا مع أفنان عقب الحفل فبدت منزعجة، كالحبيب الذي فاته لقاء حبيبه، أو كالظمآن الذي انقطع عنه الماء دون أن يروي عطشه.
حالة شاهر كانت كفيلة بتصوير كيف هي حالة المولوي، ورؤية ما سبّبه فيها عدم تمام الوصل كان كفيلا بتصوير النقيض أو حالة التحليق التي تكون فيها حين توغل دون معوقات، وتنعزل دون عزلة.
الجمهور وكان معظمه من الأجانب، لم يلحظ عدم تهيئة البيئة أو أن ما رآه من مولوية محض نفحة بسيطة حالت الظروف دون اكتمالها، الكل أبدى إعجابا وسعادة، لكنها ظلت منزعجة، وهنا كان دليل آخر على أن المولوي وإن كان يؤدّي أمام جمهور لكنه يؤدّي لذاته في المقام الأول.
تحاشي السقوط
جسد ضئيل، وملابس فضفاضة تستشعر ثقلها حتى وأنت لا ترتديها، تركيز جم، ثم ذوبان بمجرد الانطلاق في الدوران حول الذات، ليس لتمحورها لكن للخروج منها.
يرتبط الدوران عادة بفعل السقوط، ربما لذلك اختار الشيخ الصوفي جلال الدين الرومي أو “مولانا” كما يُلقب، الدوران عند تأسيسه لطقسه قبل المئات من السنين، كحيلة لسقوط الذات أو وضاعتها والسمو بالروح وترقيتها للسماء، لذا يلقبونها أيضا بـ”رقصة السماء”.
خلال تلك الرقصة، والتي تحتاج إلى أشهر لإتقانها، فإن الحسابات تختلف، فقد يحدث السقوط الاعتيادي المرتبط بالدوران، لكن لا بد أن يكون غير مرئي، فراقص أو مؤدّي المولوية إذا سقط سقوطا منظورا، كان ذلك برهان فشل، إذ لم ترتق روحه كفاية كي تحمل جسده وتحلّق به.
تلك بالطبع أفكار فلسفية قد تتبادر إلى ذهنك وأنت تشاهد فعلا لو حاولت تقليده مع نفسك لن تصمد سوى دقائق ثم تنتهي بالسقوط، أما عمليا، فتلك الرقصة لها أصول وتكتيكات تقي الراقص من الدوار، وتعينه على كسرها أو معالجتها، وحين يصل المؤدّي إلى قدرة على الدوران لنحو 45 دقيقة متصلة يكون قد وصل إلى الاحترافية.
وردة الصحراء

الدوران يمنح الراقص الانعزال دون عزلة
اعتادت شاهر أن تستقبل مشاهدين بعد العرض يطالبونها بتلقينهم فنها، وبثّ روحانيتها فيهم، وبالفعل بدأت الفنانة الشابة أولى ورشها لتعليم رقصة المولوية الصوفية، لـسبعة من الفتيات والفتيان، أبهروها بعد التدريبات الأولى.
ولم تكن الشابة قادرة في البداية على إبهار معلمها أو سرعة التعلم على النحو ذاته، ليس لأنها بطيئة فيه، لكن لأنها حين أقبلت على التعلم لم تكن كطلابها مفتونة ومحبة وفضولية صوب ذلك الطقس، بل كان الأداء حينها محض واجب وتنفيذا لشروط دور تؤدّيه في عرض مسرحي خلال الجامعة.
كان ذلك قبل ست سنوات، حين أُسند إلى أفنان، وهي طالبة في كلية الحقوق جامعة عين شمس، دور وردة الصحراء، وهي الباغية التي تتوب على يد جلال الدين الرومي، في الرواية الشهيرة “قواعد العشق الأربعين”، ولوقتها لم تكن تفكّر في المولوية غير أنها طقس غامض وثقيل على نفسها يجب تعلمه لإتقان الدور.
تتذكّر تلك الأيام، فيما ابتسامة على وجهها تتّسع “كنت أذهب إلى دروس تعليم المولوية على يد الأستاذ سامي السويسي وأقول لذاتي جاء موعد وجع المعدة، والحرمان من الطعام لساعات قبل البروفة، والدوران والدوار”.
لكنها مع ذلك، أتقنت الرقصة بعد ثلاثة أشهر من التعلم، وباتت قادرة على الدوران لنحو 45 دقيقة متصلة، سمعت عن فلسفتها وعن الطريقة المولوية من معلمها، وبدأت تقرأ وتشاهد عروضا لها لكي تتشرّبها.
كانت تلك رحلة الصعود الشاقة بالنسبة لها، وهي رحلة لا بد أن يصل إليها أي مريد أو صوفي، مغالبة المكروه لحين الوصول إلى اللذة، وفي رحلة أفنان وجدتها مصادفة كما تعلمتها مصادفة، فلم تبرحها من حينها.
وقالت شاهر لـ”العرب”، “فقط على المسرح، خلال العرض، إذ كنت قد انسلخت عن نفسي، واندمجت بالكامل في شخصية وردة الصحراء التي لم تختر البغاء، لكنها اختارت التوبة، وتعلمت المولوية على يد الرومي كسبيل للوصل وطقس للزهد، ذقت وقتها حلاوة لم تتكرّر في شيء غيرها”.
من حينها، باتت المولوية طريقتها للخلاص، متى استشعرت الضيق قامت لتؤدّيها، في منزلها دون حتى أن ترتدي زيها، المهم أن فلسفتها باتت حاضرة دائما داخلها. وعلى الرغم من أن أفنان تؤدّي المولوية منفردة أو بصحبة زميلها المولوي علي حسين، داخل فرقة “روح”، التي تقدّم عروضا تجمع بين الإنشاد والترنيم، فإن المولوية بالأساس طقس جماعي، فهي بمثابة الحضرة للطريقة التي أسّسها الرومي.
ويلاحظ عند أداء أفنان للمولوية ترديدها للأناشيد وإغماض العينين أحيانا والانفصال البادي عن المحيط بشكل تام، كما يلاحظ أيضا اختلاف حركات اليد، تارة ترفع يدا إلى السماء وتخفض أخرى إلى الأرض، وتارة تخفضهما إلى الأرض، وتارة إلى القلب.
وعن ذلك تقول “كل شيء في المولوية له معنى، بداية من الزي الأبيض فهو يرمز إلى الكفن، يرتديه المولوي في إشارة إلى أنه يقدّم روحه إلى الله”.
جلال الدين الرومي اختار الدوران عند تأسيسه لطقسه الصوفي، كحيلة لسقوط الذات أو وضاعتها والسمو بالروح وترقيتها للسماء
في تركيا (موطن المولوية الأصلي) يرتدي المولوي عباءة سوداء فوق الزي الأبيض، ويخلعها في بداية الطقس أو أوله، وهو يرمز إلى الدنيا، بحسب أفنان، أو الهموم التي يخلعها المولوي ويندمج في رحاب الله.
أما في ما يخص الإشارات، فتقول “المولوية تقوم بالأساس على الدوران حول الذات، وفيه تُثبّت القدم اليسرى (تتحرّك في نقطة محددة) وتمثل الشريعة، أما القدم اليمنى التي تدور حولها فتمثل الدنيا، أي أن المولوي يدور حياته حول الغاية والهدف الثابت السامي وهو الشريعة”.
وأضافت “رفع اليد اليمنى إلى أعلى واليسرى إلى أسفل تعني وصل بين السماء والأرض، المدد المطلوب أو المأخوذ من السماء الواصل للعباد في الأرض، وكذلك اليد إلى الأعلى وأخرى إلى موضع القلب، حيث طلب المدد والعون للقلب من الله”.
وتتلهّف أفنان شاهر لليوم الذي تستطيع فيه أن تؤسّس فرقة مولوية، وتنحاز إلى الفتيات وتتمنى أن تكون فرقتها منهنّ.
![]()
|
![]()
|
![]()
|