أفلام تحتفي بقوة الفن التشكيلي وعالمية الشعر الإيطالي

حرص منظمو مهرجان الأفلام الفنية الوثائقية في لبنان على أن يعرضوا، كما كل سنة منذ تأسيسه إلى الآن، أفلاما وثائقية بمناسبة ولادة فنان عالمي كان له أثر كبير في مجتمعه بشكل خاص والعالم بأسره بشكل عام. وإن كانت السنة السابقة قد شكّلت تحية للموسيقار الألماني العبقري بيتهوفن في فيلم حمل عنوان "تاسعة بيتهوفن - سيمفونية العالم"، فهذه السنة جاء الدور على الشاعر الإيطالي العالمي دانتي أليغييري في ذكرى مرور سبع مئة عام على رحيله.
كلما عاد فصل الخريف، وتحديدا شهر سبتمبر، عاد معه مهرجان بيروت للأفلام الفنية الوثائقية متجاوزا مرة أخرى الأزمات التي باتت سنوية في لبنان، بدءا بالتشرذم الفني المؤسساتي المُستفحل في لبنان الذي واجهته أليس مغبغب، مُطلقة المهرجان، فذلّلت العراقيل الواحدة تلوى الأخرى حتى أثبتت حضوره بقوة على الساحة ليس فقط اللبنانية بل والعالمية.
وحرصت مغبغب، التي تملك صالة فنية مرموقة في بيروت تحمل اسمها، على أن تجمع من حولها بوتقة من المنهمكين بشؤون الفن عالميا ومموّلين عالميين آمنوا بجدوى الفن في عالم معاصر يتعارك مع ذاته.
وبفضل سعيها المتواصل لدعم المهرجان وضخه بقوة متجددة تؤمّن تثبيته كحالة سنوية ثقافية، استمرت أليس مغبغب في الحفاظ على مواعيد إطلاقه وعلى تضمينه أفلاما منتقاة بروية شديدة لناحية فنيتها، ولكن أيضا لناحية مصداقيتها.
والمهرجان الذي تخطى أحداث ثورة السابع عشر من أكتوبر 2019 التي هزّت البلد بأسره، وتمكّن من الصمود عبر الاستعانة بتقنية العرض الافتراضي، وأقيمت خلاله
جلسات نقاش مفتوحة وكثيرة تناولت مواضيع ثقافية تدور في فلك ما تمّ عرضه، يعود اليوم صامدا أمام احتداد الأزمة الاقتصادية والسياسية في لبنان.
ضد الإفلاس الثقافي
انطلقت فعاليات المهرجان في الرابع عشر من سبتمبر الجاري واستمر حتى السادس والعشرين منه بالاشتراك مع المعهد الثقافي الإيطالي في بيروت، محتفيا هذه السنة بمرور سبع مئة عام على رحيل الشاعر الإيطالي/ العالمي دانتي أليغييري (1 يونيو 1265 – 14 سبتمبر 1321) المُلقّب بـ"والد اللغة الإيطالية".
إثر سؤال مغبغب عن سبب إصرارها على إقامة مهرجان فني وسط أزمة مالية غير مسبوقة في لبنان؟ أجابت "هذا مهرجان غير تجاري ولا يبغي الربح. وهو مهرجان يقف كسائر النشاطات الفنية والثقافية عكس تيار الانهيار".
وتقول مغبغب في البيان الصحافي للمهرجان "لأن الفن لا يمسّ القلب إلاّ إذا شارك في الصراع من أجل الكرامة، كان لا بد لـ‘دانتي 700’ أن يقترن بإرادة إعادة بناء أحياء بيروت المنكوبة. تشكّل الثقافة اليوم الحصن الأخير لمجتمعنا فيما كل ما دونها ينهار، والأهم من ذلك أن ‘الإفلاس’ المالي الذي تعاني منه الأكثرية الساحقة من اللبنانيين نريده ألاّ يتحوّل إلى إفلاس ثقافي وأخلاقي".
وسط الجنون اللبناني المتكرّر يتمسّك الفن بأطراف من خيوط حريرية برّاقة هي بمثابة نجاة من الانهيار التام
ولأجل ذلك تمّ اختيار دارة داغر الشهير الذي “دمّره انفجار بيروت في الرابع من أغسطس 2020، وأعاد بناءه وتجديده وفق الأصول الفنية على يد مالكيه".
وتضيف مغبغب أن "المهرجان جمع في أيامه المعدودة سهرات حضورية غير افتراضية تنوّعت بين شعر وفن وموسيقى وأفلام".
وبناء على ما قالته منظمة المهرجان وما حدث على أرض واقعه يمكن أن نضيف ملاحظة هنا، هي أن هبوط قيمة الليرة اللبنانية جاء هبوطا فائق السرعة. ومع هذا الجنون الذي يقارب الخيال كان لا بد من أن يتمسّك الفن -بجميع هيئاته- بأطراف من خيوط حريرية برّاقة هي بمثابة نجاة من الانهيار التام.
إلى جانب ذلك يؤمن الكثيرون بأن لبنان قد أثبت لعدة مرات أنه كما يقع بسرعة غير متوقعة ينهض كذلك بسرعة هائلة. حينها ستتلقّفه الحياة الثقافية بجميع أياديها مُعلنة بداية حياة جديدة.
ومن هذا المنطلق تعوّل -على الأرجح- أليس مغبغب على هذا الاحتدام الذي يملك القدرة على التجدّد رافضا الاندثار في عزّ ظهور الأزمات.
حضور نوعي
لبّى دعوة مهرجان بيروت للأفلام الفنية الوثائقية كلّ من المؤلّف الموسيقيّ اللبناني نداء أبومراد وهو عميد كلية الموسيقى وعلم الموسيقى في الجامعة الأنطونيّة، ومجموعة الجامعة الأنطونيّة لموسيقى العصر الوسيط، والممثّل والمؤلّف سيزار كابيتاني الذي يعيش في فرنسا منذ سنوات وقد تخرّج من مدرسة الفنون المسرحية في ميلانو وله أعمال سينمائية وتلفزيونية في فرنسا وإيطاليا. كما صدرت له مؤخرا مجموعة قصص قصيرة بعنوان "الشظايا".
كذلك لبّت الدعوة إلى المهرجان الخبيرة في علم الاجتماع والأستاذة في اللغة والثقافة العربية في جامعة لويس في روما والعضو في المنظمة العربية - الإسلامية والمعرّبة فرانشيسكا ماريا كورّاو.

كما حضر المخرج نيكولا خوري الحائز على شهادة في الدراسات السمعية والبصرية من الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، والحاصل على العديد من الجوائز العالمية عن أفلام له تنوّعت ما بين أفلام قصيرة ومتوسطة.
وشارك في افتتاح المهرجان المتخصّص في تاريخ الفن جوزيبي ريزو الذي يُعِدّ حاليا دكتوراه حول تاريخ الفن في جامعة هايدلبرغ. كما حضرت المهرجان الناشرة ديان دو سيلييه والأستاذة في الثقافة العربية والروائي/ الشاعر والصحافي اللبناني عبدو وازن الذي سبق أن شارك في مؤتمرات أدبية وثقافية داخل العالمين العربي والأوروبي وله مؤلفات أدبية عديدة نذكر منها “سبب آخر لليل” و”حياة معطّلة".
وضم المهرجان أفلاما عديدة منها -إلى جانب “دانتي – ما هي الكوميديا”- فيلم عن فنان النهضة ساندرو بوتيتشيلي. ومن عناوين الأفلام الأخرى نذكر ثلاثة أفلام من إخراج اللبناني نيكولا خوري عن الهندسة المعمارية والرقص والفن، وتلا عرض هذه الأفلام نقاش حول أبعاده الفكرية وتمكّنه الفني.
وحضر إلى جانب تلك الشخصيات الثقافية المدعّوة للافتتاح جمهور من المهتمين الذين شاركوا جميعا على مدى أيام المهرجان القليلة بما يشبه احتفالا شعائريا، وسط هذا الظلام، باستمرار الأمل في مستقبل لبنان حتى قبل أن تبدو ملامحه واضحة في الأفق البعيد.