أدب جديد يُكتب على الملأ وفي رواق العرض

مفاهيم الأدب والكتابة تتخطى اليوم الأجناس التعبيرية المأثورة في التأليف والصياغة المشتغلة على المعنى.
الأربعاء 2020/01/22
الكتابة تغيرت أشكالها ومعانيها (لوحة للفنان جيلالي غرباوي)

بتنا اليوم نرى أنواعا جديدة من الأدب الذي توسع من دائرة الخطاب التقليدي ومحمل الكتابة إلى الأداء والصورة والتفاعل، فلم يعد الأدب حكرا على محمل النص المكتوب كما كان على مدى قرون مضت، بل انطلق إلى فضاءات أخرى، كالصورة والأداء والصوت، وهذه محامل تختلف عن المحمل الأول للأدب ألا وهو الشفاهي والمسموع، إذ هي من جنس الفن المعاصر.

قبل أزيد من عقد من الزمن، وتحديدا سنة ألفين وثمان، احتضن مركز جورج بومبيدو بباريس، عرضا بصريا للباحث والمؤرخ الفرنسي جون ييف جواني اختار له عنوان “موسوعة الحروب”، وقد تضمن صورا فوتوغرافية، ولوحات فنية، ومقتطفات من أشرطة فيديو، ومقاطع من أشرطة مرسومة، وتسجيلات وثائقية، ومشاهد من أفلام روائية، بالإضافة إلى قصاصات صحف، ثم مخلفات عتاد حربي.

بدت المعروضات الواردة من أصول متباينة وهجينة، أشبه ما تكون بشذرات معنوية متنائية، ومتساندة في الآن ذاته؛ لا تلتئم ضمن شكل خطابي ثابت، وتجلى النسق الموحّد لها مستندا لدعامتين فقط، هما: الموضوع، وتماثل القاعدة المرتهنة للبصري.

مثّل معرض “موسوعة الحروب” عتبة لخطاب لفظي شارح وتأويلي لمؤلفه، ومقدمة لأداء حواري لمضامين الكتل والصيغ البصرية المعروضة، ولذا يمكن استيعاب العبارة الاختزالية الدالة، التي وصف بها جون ييف جواني عمله، حين اعتبر التجربة بمثابة “كتاب قيد الكتابة على الملأ، وفي صالة العرض”.

الشيء الأكيد أن العرض البصري/ اللفظي، مثلما هو ظاهر، ليس مجرد محاضرة، ولا هو بمعرض فني معاصر فقط، بقدر ما هو نسيج يتخطاهما معا، إلى أداء تعبيري ثالث. فليس الرهان على المعلومة ولا الوثيقة ولا العمل الفني في حدّ ذاته، فهي احتمالات بدت غير ذات أهمية مقارنة بالصيغ التي انتقلت بها التمثُّلات؛ التي هي القصد من إعادة تقديم صور الحروب وتفاصيلها المرعبة، للجمهور في متحف للفنون.

لم يكن فعل “الكتابة” في العرض الموسوم بـ”موسوعة الحروب” يستهدف الدلالة الأدبية التقليدية، وإنما يشير بقدر كبير من الحساسية إلى جوهر التكوين الأسلوبي، للتمثيل البصري المقترن بعتبات لفظية، مثلما أن “الموسوعيّة”، في الوسم ذاته، ارتقت مدارج مغايرة لمعناها في الأعمال التصنيفية المكتوبة والمطبوعة، لتدل على تجميع أكبر قدر ممكن من التشكيلات الرمزية الممثلة لما جرى خلال الحروب الحديثة في أوروبا، عبر “وسائط” فنية”.

الإلحاح في استعمال "الكتابة" داخل ما هو بصري لا يخلو من تطلع إلى خلق مدار مفتوح للأدب وإلى توطين الفن المعاصر فيه

الكتابة في هذا الاستعمال المنزاح والاستعاري، وضع ابتكاري للمعنى خارج نطاق الخطاب الأحادي، ونقل للمواقف والأحاسيس، التي لا تفي بها اللغة دائما في التعبير الأدبي، فغير خاف أن الوصف الشعري لأراغون أو الروائي لستاندال أو أندري مالرو لصور فناء الأجساد وخراب العمران شيء مختلف عن الدفق الحسي الذي تنقله الفوتوغرافية لي ميلر عن لحظة سقوط برلين في أيدي الحلفاء، أو الذي يصنعه ستيفن سبيلبرغ، في افتتاحية فيلمه “إنقاذ الجندي رايان” حين صور إنزال جيوش الحلفاء بضفة النورماندي شمال فرنسا، أو حتى لأثر التجويفة النحاسية المتآكلة لصاروخ مفرغ من ذخيرته المتفجرة، وقد رصفت في معرض.

في تعبير بات كلاسيكيا اليوم تحدث تزفيطان تودوروف ضمن كتابه الشهير “الأدب في خطر” عن قناعة ترى “الأدب مثلما الفلسفة مثلما العلوم الإنسانية هو فكر ومعرفة للعالم النفسي والاجتماعي الذي نسكنه، والواقع الذي يطمح الأدب إلى فهمه هو ببساطة (لكن في الآن ذاته لا يوجد شيء أكثر تعقيدا منه)، التجربة الإنسانية”.

إنه الافتراض ذاته الذي جعل مفاهيم “الأدب” و”الأدبية” ومن ثم “الكتابة” تتخطى اليوم الأجناس التعبيرية المأثورة في التأليف، والصياغة المشتغلة على “المعنى”، لتشمل الخطاب البصري في الأشكال المستحدثة، بما يبرر على الأقل ذلك الجنوح من قبل لجنة جائزة نوبل، في السنوات الأخيرة، الذي بدا زيغا صادما لجمهور عريض، مستكين لقناعاته المحافظة، إلى الخروج عن الاختيارات التقليدية للإبداع المسمى “أدبيا”، نحو تجارب توطن اختراقات أسلوبية، ممتدة من المسرح الاحتجاجي إلى موسيقى الروك، ومن “داريو فو” إلى “بوب ديلان”.

وفي هذا السياق تحديدا نجد أن عبارات من قبيل “أدب مستحدث” و”كتابة بصرية” و”أدبيات أدائية”، المرتبطة بشكل كبير بتشكيلات “الفن المعاصر”، بدأت تدرج في استعمالات نقاد الفن اليوم بوصفها صيغا لاستثمار جديد لمعنى “الأدبية”، ضمن مشاريع عروض فنية متعددة الأساليب والأشكال والمقامات.

ولا يخلو الإلحاح في استعمال “الكتابة” داخل ما هو بصري من تطلع إلى خلق مدار مفتوح للأدب من جهة، ومن سعي إلى توطين الفن المعاصر ضمن نطاق “الشعريات” الموسعة من جهة ثانية. في مقال يحمل عنوان “إعادة استثمار الأدبية في الأعمال الفنية المعاصرة لفيليب فاسيي” تقول الناقدة الفرنسية ماري جان زينيتي ما يلي “الكاتب اليوم، أقرب ما يكون إلى فنان بصري، من المنطلق ذاته الذي يجعل الفن المعاصر يُعرّف بما هو ممارسات تستهدف إعادة تعريف الأدب خارج الكتاب، وتنظر إلى الكتابة بوصفها احتمالا ممكنا بوسائل أخرى”.

15