أبصار الفنانين العرب تشخص إلى الثورة اللبنانية

كتب الأديب اللبناني أمين معلوف في روايته “الهويات القاتلة” الصادرة سنة 1998 “هوية الفرد ليست تضافر عدة ملكات شخصية معزولة عن بعضها البعض. إنها ليست فسيفساء. إنها نسيج لمسامات جلد مشدود وواحد. ما إن يلمس المرء ملكة شخصية واحدة منها حتى يرتجف كل الجسد بأسره متأثرا”.
تصف هذه الكلمات البليغة المشهد التشكيلي المعاصر المرافق للثورات الخاصة في البلدان التي تمتلك حدودا جغرافية وتتميّز بتشابه اجتماعي وسياسي واضح.
وفي هذه اللحظة اللبنانية/ العراقية بامتياز، تهمنا تلك الأعمال الفنية التي نشأت من قلب الحراك الثوري لتتوالد بمحاذاة جرف من الصراعات الداخلية والخيبات الهائلة التي يعيشها الفرد حيال الطبقة الحاكمة، وكيفية تعاطيها مع الثورة ممّا يتضمن ذلك من عدم اكتراث يفوق الخيال إلى عنف مُمنهج وغير مسبوق.
على سبيل المثال، تبدو أعمال الفنان العراقي سيروان بران في معرضه الأخير في بيروت، والذي حمل عنوان “أنياب” استشرافا لوحشية لم تلبث إلاّ وانفجرت في لبنان والعراق على السواء. وإن استمد الفنان العراقي من بيئته العراقية المتأزمة العديد من الأعمال الفنية وليس فقط تلك التي احتضنها معرضه البيروتي الأخير، فأعماله هذه يجد فيها اللبناني اليوم أكثر من أيّ وقت سابق الكثير ممّا يعيشه ويثور عليه ويدفع ثمنه غاليا في حاضره وفي ساحات التظاهر التي أخذت مؤخرا ملامح أكثر “عنفية” عمّا قبل.
ولوحات الفنان الأخيرة أظهرت مجموعة كلاب متربّصة بهيئات اللحم السائح شكّلها الفنان ببراعة هائلة ليجسّد منطق العداء الدائم المنبثق من الجشع والخيانة وانعدام الرحمة والشره. مواصفات هي من أهم ما يقف ضده الشعب اللبناني والعراقي على السواء.
أما معرض الفنان العراقي معتصم القبيسي الذي عُرض أيضا في صالة أجيال البيروتية وحمل عنوان “آخر الجنرالات” فبدا خارجا للتو من عقل ووجدان كل ثائر لبناني وعراقي على أرض الثورتين الحاليتين. عثر الزائر لمعرض الفنان على تجسيد معدني بارد لهامات الفساد القابضة على أنفاس وأرزاق الشعوب المضطهدة. جنرالات فاسدة أقامت طويلا جدا وكرّست إجرامها في يوميات شعبين وقد نضج وقت الإطاحة بها.
وفي نفس السياق تأثر الفنانون السوريين بثورة لبنان ووجدوا فيها امتدادا لثورتهم. نذكر على سبيل المثال الفنان/ الخطاط السوري منير الشعراني الذي نشر على صفحته الفيسبوكية عملين فنيين مشغولين بالخط العربي. اللوحة الأولى حملت شعار “كلهم يعني كلهم” وهو الشعار/ المنارة للثورة اللبنانية. رفع الفنان من هذا الشعار المُكثف إلى مقام الأيقونة التي تجسد أهم ما يثور ضده اللبناني والعراقي على السواء. أما اللوحة الثانية فجاءت تحت عنوان “مع شعب لبنان” لتؤكد على الشعور بالجرح الواحد وإن تمظهر بأشكال مختلفة.
ومن الأعمال الفنية التي يجد فيها اللبناني والعراقي والفلسطيني والسوري ما يشده إلى التعاطف مع الثورة للبنانية نذكر الجدارية التي رسمها الفنان غياث الروبة في مدينة طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني عند مدخل ساحة النور التي شهدت ولم تزل تشهد أقوى المظاهرات.
رسم الفنان الجدارية تخليدا لذكرى استشهاد علاء أبوفخر المُلقب بابن الثورة. وما يميز هذه الجدارية أن من رسمها هو فنان فلسطيني/ سوري يعيش في محلّة أبوسمرا في طرابلس، وقال في أكثر من مناسبة للصحافيين “أفضّل أطراف السّاحات.. واهتمامي بتصوير وجوه ولحظات من الثورة جاءت من إيماني بها ومن أنها تنتمي بأفكارها أيضا إلى الفلسطينيين والسوريين.. وقد بدأت بتوثيق وجوه الثّورة على جدرانها منذ الأحد الأول للثورة. أول رسمة كانت لبورتريه طفل صغير يحمل العلم اللبناني”.
ويضيف الفنان “أنتمي إلى مجموعة صغيرة من عشرة فنانين، من طلّاب وخرّيجي جامعات طرابلس في الفنون الجميلة وفنّ العمارة، قمنا بتجميع مواد الدهان وأدوات الرسم من مصروفنا الخاص لنشارك في الثورة على طريقتنا الخاصة”.
أما الفنان التشكيلي السوري عزيز الأسمر فقدّم سابقا لوحات تتحدث بصريا عن مآسي الشعوب في الحروب والثورات على السواء، لاسيما الثورة السورية. ومع بداية ثورة لبنان، شرع الفنان الذي عاش فترة طويلة في لبنان في رسم لوحات عن تلك الثورة على جدران مدينته إدلب في سوريا تضامنا مع الثورة اللبنانية التي وجد فيها، هو وأهل مدينته، الأمل في نجاح الثورة السورية التي قد يعتبرها البعض انطفأت في حين يرفض هو ذلك، مثله كمثل الآلاف من السوريين في الداخل السوري.
ونذكر أيضا من الفنانين السوري غيلان الصفدي الذي قدّم لوحة لافتة تحت اسم “ثورة لبنان” وبرز أسلوبه المميز في التعامل مع اللون الرمادي كناطق باسم الويلات الباطنية والخارجية منها.
ومن بين الفنانين الذين داروا في فلك الثورة اللبنانية ورسموا أعمالا رائعة تمزج ما بين عين الفوتوغرافيا والريشة القاتمة الفنان التشكيلي السوري محمد المفتي. ويمكن اعتبار اللوحتين “تشرين في لبنان” و”فقدان الذاكرة” من أنقى ما رسم. تكلمت النقاوة القاتمة في لوحاته بلسان ضربات ريشته الواثقة جدا والمترجمة في ذات الوقت من فعل العاطفة التي ساقت جميع التفاصيل حتى اكتمال المشهدية.
كل تلك الأعمال المذكورة آنفا وعلى اختلاف حرفيتها وتعبيراتها الفنية تصبّ لصالح فن ملتزم يبعثر الحدود ما بين مختلف التجارب المعيشية، ومن ثمّة الفنية، كي يستقيم كيانه على وقع تحوّلات الحياة واشتداد الهواجس الإنسانية.