المنظور في المسرح

بدأ نقّاد المسرح ودارسوه يولون مؤخرا عنايتهم بموضوع “المنظور” في فن المسرح، أسوة بنقّاد السرد ودارسيه الذين اعتبروه مكونا مركزيا في الخطاب الروائي، وخصّبوه بتصورات مختلفة، انطلاقا من العلاقة الوثيقة بينه وبين مكون آخر من مكونات هذا النوع الأدبي وهو الراوي.
من المعروف أن النص المسرحي يختلف عن النص السردي في كون الأول يقدم الأفعال الدرامية إلى القارئ أو المتلقي على نحو موضوعي مباشر من دون وساطة الراوي، باستثناء بعض الصيغ المسرحية التي يوظف فيها الراوي، في حين أن الثاني يعتمد على الراوي، أيا كانت معرفته بالأحداث والشخصيات. وهذه الميزة التي يحملها النص المسرحي تجعل المنظور فيه على علاقة مباشرة برؤية الشخصيات، والمخرج (عند تقديمه على الخشبة).
لكن دراسة المنظور في سياق التلقي المسرحي لا تتجه، بطبيعة الحال، إلى وجهة نظر المخرج، والشخصيات وخطاباتها وأفكارها داخل العرض المسرحي فحسب، بل إلى وجهة نظر المتلقي أيضا بوصفه مستقبِل ذلك العرض.
في إطار دراسة جمالية التلقي في المسرح، وقف بعض النقاد على تقنية معروفة في التأليف المسرحي تدفع المتلقي إلى تبني موقف إحدى الشخصيات، واعتناق منظورها، وهي توجيه رؤيته إلى زاوية معينة، أو منظور خاص، وقد ضرب الناقد الإنكليزي جوليان هلتون مثالا على ذلك بتكريس ياغو جهده طوال مسرحية “عطيل” ليجعل الشخصيات الأخرى، خاصة عطيل، ترى الأشياء على الصورة التي يريدها هو.
ورأى هلتون أن هذه المسرحية أشبه بدرس موضوعي يجسد كيفيّة التوظيف الماكر للصورة، وتحوير دلالاتها، لكن في مسرحية هاملت حين تلعب اللعبة نفسها لا تلقى نجاح ياغو. واستنتج هلتون من المقارنة بين المسرحيتين أن أثر العرض المسرحي ومعناه يتوقفان، بالدرجة الأولى، على استعداد المتلقي لا على مهارة صانع العرض.
لا شك في أن هذه المقارنة الذكية تقدم نموذجين للمتلقي المسرحي، في إطار ما يعرف بـ”المسرحية داخل المسرحية”، الأول نموذج المتلقي السلبي الذي يأخذ بما يراه أمامه من دون تبصّر، ويتقبّله على أنه حقيقة، والثاني نموذج المتلقي الإيجابي (الحذر)، الذي يدعو إليه بريخت، وغيره من المسرحيين المعاصرين، لأنه يضع مسافة بينه وبين ما يُعرض عليه، ويتخذ منه موقفا نقديا حتى من دون أي تقنية تغريب.
تلجأ بعض العروض المسرحية إلى التلاعب بمنظور المتلقي، الأمر الذي يؤدي إلى تشكيل وجهات نظر متباينة إزاء المشكلة المطروحة تحت تأثير التعاطف أو الكره على حساب النظرة الموضوعية، والتقويم العقلاني والأخلاقي للأحداث. لكن هذا التلاعب يضر بالفن المسرحي، ويربك أفق انتظار المتلقي.
إن دراسة المنظور في المسرح، أو في سياق تلقيه، على الرغم من أهميتها، لم تحظ قبل ظهور نظرية التلقي باهتمام النقّاد مقارنة بالاهتمام الذي حظيت به في السرد. ونرى أن توجه بعض الباحثين الأكاديميين العرب، المتخصصين بالمسرح، إلى مقاربة هذا المفهوم مقاربة تطبيقية ستثمر نتائج مهمة تثري المسرح العربي.
كاتب من العراق