نور هشام السيف تستلهم مناخاتها من تنهيدة غسان كنفاني

مقتبسة من الراحل الفلسطيني غسان كنفاني تنهيدته في “عائد إلى حيفا”، قدمت التشكيلية السعودية نور هشام السيف معرضها الأول “أن لا يحدث ذلك كله” في غاليري عبدالله القصبي بجدة، مؤكدة على ثبوت حرف النون، وعدم إدغامه في عنوانها.. الحرف الذي اعتبرته السيف العبارة الناهية المختزلة لكل الجنون الأرضي.
تقول السيف عن تجربتها لـ”العرب”: التجربة انطلقت مع الأزمات العربية في المشرق قبل 3 سنوات، لكنها لم تكن واضحة أو ناضجة، بل كانت عبارة عن حالات فردية غير موحدة.
وتواصل: شعرت بعد تفاقم هذه الأزمات والخسارات الكبرى أن الصور التراكمية في المخيلة، تتدفق وتلح عليّ أن أجمع السواد المحيط بالسخرية من أنفسنا، لأننا ساهمنا بأن نجعله حالكا أكثر فأكثر، واخترت عبارة غسان كنفاني “أن لا يحدث ذلك كله”، وكأني أنسف جميع ما قمت به من تجسيد للفوضى التي نشهدها، ومن هنا تحددت البوصلة.
بلاد العجايب
قدمت السيف في معرضها ثلاثين لوحة منع بعضها لأسباب رقابية، وكان من ضمن الأعمال الممنوعة جدارية “بلاد العجايب”، اللوحة تمثل 12 شخصية في صور كاريكاتورية ساخرة على الواقع، ومتهكمة منه بشكل سوداوي صارخ، لا يمكنك معه إلاّ الضحك والبكاء في آن واحد.
لقد استحضرت نور السيف التاريخ العربي، والنازية، والاحتلال، والرجعية، والليبرالية العربية، ورجال الدين، والدمار، والسرّاق، والسجن، والإرهاب، والبترودولار، وضفدع كامل، وخنزيرة في صورة عاهرة بالقرب من الميديا الأنيقة في مقابلة حصرية مع “أبوالعناتر”.
كل ذلك في لوحة فرطت السيف من خلالها عِقْد تاريخ البشرية، واختزلت مسلسل الدمار المكسيكي الطويل في “أن لا يحدث ذلك كله”، وكأنها في شريط من البشاعات اللامنتهية.
|
تعلق السيف على اللوحة قائلة “هي جميعها عوامل أدّت إلى حدوث ما لم يجب أن يحدث. الميديا التي تستعين بالعنترة، وتتغذى على الفتنة والجمال المبتذل كعنصر مشترك بين أصحاب الأموال وممولي الإعلام في كل المجالات، تجار الدين القابضين على أيدي الشباب الطموح بالقفز إلى لقاء حور العين، الشخصية الإشكالية المختلفة عن البيوت المحافظة، والتي تخشى على أبنائها من التفكير النقدي والعصف الذهني، وتقودها دائما إلى المنطقة الآمنة من ضفة الحياة وتمنعها من البصيرة بشكل قمعي.. جميع هذه الصور تفضي بنا إلى المشهد الرمادي الأخير”.
وتتابع “لابد من التسليم بأن كل بشاعة تتجلى في هذا الشرق، تليها بشاعة أخرى أكثر دمامة وأشد فزعا، ما يحمل على الظن بأن التحكم في الأولى لم يكن موفقا”.
وترى نور السيف أن التاريخ لا يعيد نفسه، بل هو مستمر ويتجدد مع قدوم تقنيات مختلفة تواكب العصر. كل ما هنالك أن الميديا أصبحت بطلا أساسيا في الأحداث التي كانت قائمة في السابق. وعن ذلك تقول “تناسينا أن المراحل المزدهرة في عصر الإسلام كان فيها دائما حكام متعطشون إلى الدم، وحاشية مولعون بالنهب، وحروب مدمرة، ومجازر باسم الدين، وإبادة وحشية.. الفرق أن جزعنا من هذه البشاعة هو تعزيزها بالتوثيق البصري المرعب”.
وفي سؤال للفنانة السيف عن أثر الرقابة في وعي الفنان العميق تجيب: هنالك نظرية “الطبطبة على النفس” تجاه كل عائق يقف أمامنا في كل مجالات الحياة، كأن نقول أن المبدع هو من يستطيع أن يرمي بفكرته الجريئة من خلال فن المواربة.
تستطرد “قد يكون ذلك صحيحا، إذا كانت المواربة هي خيار وليست فرض خانق، وأنا لا أجيد هذا الفن دائما، طالما أن الرقابة تضعه أمامي كشرط أساسي! الوطن العربي بأكمله يعاني من سقف محدد للإبداع بنسب مختلفة، وهذا ما يؤدي إلى اختلال الهوية الفنية وضياعها”.
"داعش" و"القاعدة" كان همهما الوحيد قتل الإنسانية في الإنسان عبر القضاء على مكتسباته الفنية
نظارة سوداء
تبحث لوحات السيف عن المسافات التي تشكل تغير الوعي وانقلاباته الجوهرية في سيرة البشر، خصوصا أولئك الذين تشوّهوا بالانخراط في تيارات إرهابية مثل “داعش” و”القاعدة” اللذين كان همهما الوحيد هو قتل الإنسانية في الإنسان عبر القضاء على مكتسباته الفنية.
لهذا نجدها تتساءل عبر لوحاتها عن سبب الحروب التي لا تنطفئ في المشرق، مخلفة هياكل من العدمية والفوضى في مجموعة أعمال تفضي بالمتلقي إلى حالة من التشاؤم الكبير.
تقف السيف عن هذا الرأي حول تجربتها قائلة “السوداوية هي المشهد الصارم في أعمالي. وهذا لا يعني أنني عبرت بشكل هامشي عن أمل طفيف جدا، فلنكن واقعيين، المثقف مهما ناضل في سبيل قضيته لسنوات فإنه لن يستطيع التغيير بشكل فعلي وآني، نحن في هوة متزايدة الاتساع بين تقدمنا الاستهلاكي السريع وبين تقدمنا الإبداعي البطيء الذي لا يسمح لنا بالخروج من هذه الحفرة التي نشارك جميعا في توسعتها!”.
وتختم: “من يستطيع التغيير حقا هو السياسي صاحب القرار برتبة مثقف، وليس المثقف سياسيا، وإن تحققت هذه المعادلة فإني قد أخلع نظارتي السوداء”.