مسفر الغامدي: الكتابة تمرين شاقّ على العصيان

الشاعر هو ابن بيئته والأكثر التصاقا بتفاصيلها، زمانية كانت أم مكانية، إنه من يحتضنها وتحتضنه، هو من يحملها معه في كلماته وهي من تحمله كما تحمل سماء طائرا يخوض في بطنها. لعل هذا الارتباط بالمكان جليّ عند الشاعر السعودي مسفر الغامدي، “العرب” كان لها هذا اللقاء مع الشاعر للحديث عن أرض الشاعر وشعره.
لا يتوقف الشاعر السعودي مسفر الغامدي عن الحنين إلى تلك الأرض، التي تنهض بخصبها ومائها وأحلامها بين الجبل والسهل والمطر مستحضرا الإنسان المفقود في الزمن الرقمي العالي.
الكتابة عصيان
يقول الغامدي عن مناخات المجموعة لـ”العرب”: نعيش الآن في حياة مليئة بالمرايا. لا نرى الأشياء وإنما نرى انعكاسها، وصورها. أريد أن أكون طبيعيا، وأن أرى الأشياء على طبيعتها، لذلك كثيرا ما لجأت إلى استعارة تلك الأرض، ربما كنوع من الإدانة لهذه الحياة المتكلفة التي نحاول أن نحياها.
الغامدي وبعد إصداره “حينا من الضوء” عام 2003 عن دار المدى، غاب عن المشهد الشعري أكثر من عشر سنوات، لكنه بقي حاضرا بمشاركاته الثقافية كاتبا ومحللا وراصدا ومتابعا للمشهد المحلي والعربي؛ كتب المقالة بجدارة في العديد من الصحف السعودية، وعبّر عن رأيه في جلّ القضايا التي شغلت الرأي العام على المستوى الأدبي والاجتماعي والسياسي.
وعن هذا الغياب يحدثنا الغامدي قائلا: ربما يحتاج الأمر إلى فسحة أطول، حين نحاول الخروج من طريقة معينة في الكتابة، إلى طريقة أخرى. الكتابة هي تمرين شاق على العصيان: من السهل أن تستبدل قميصا بقميص، ولكن يصعب أن تستبدل كتابة بكتابة. آمل أن يجد القارئ في هذه المجموعة ما يبرر هذه الفسحة الطويلة نسبيا.
السينمائي في الشعر
|
هنالك انطباع يتسرّب إلى وعي المتلقي لنصوص المجموعة؛ وهو أن الغامدي يلتقط المشاهد بعدسة سينمائية عالية الجودة، حيث يأخذ الصورة بشكلها التفصيلي في مشهد متعدّد التكوينات، ثم ينتهي برصد حالة من حالات القرية أو القبيلة، وكأنه يريد لفضاءاته أن تتسع لعيون المتلقي.
وهذا التأويل -ورغم أن الغامدي لا يحب تفسيره- إلا أنه حاضر في تفاصيل النص. وهذا ما عبّر عنه قائلا: أعتقد أن هذا من الحسنات القليلة التي يمنحها عصرنا للشعر: أن تتحول عيوننا إلى كاميرات، وكتاباتنا إلى سيناريوهات لأفلام محتملة.
عبر أربعة وستين نصا شعريا قصيرا كثّف الغامدي فضاءاته للمتلقي، حيث قدّم تجربته على شكل مشاهد متعالقة مع المرأة أحيانا، ومع الأرض ساعة، وفي القرية والقبيلة في ساعات أخرى. لكنه بقي محاطا في جميع النصوص باشتعال السؤال الوجودي الدائم عن الحنين لزمن لا يعود.
في المجموعة احتفاء بالأغاني الشعبية وبالمكان والرقص. وكأنه حنين لزمن لم يعد متاحا، الأمر الذي دفعنا إلى التساؤل مع الغامدي عن كيف غُيّبت هذه “الطقوس الاحتفالية” عن تكوين إنساننا في السعودية؟ يجيب: لا أريد أن أعيد الكلام الذي تكرر كثيرا عن الدور السلبي لما سمي بالصحوة الإسلامية في ذلك، ولكن الواقع المرّ الذي نعيشه يحتم ذلك. لقد حاول “الصحويون” أن يفصلوا إنسانا على مقاس الآخرة، لذلك افتقدنا كل ما يبعث على الحياة. أظن أننا خسرنا الدنيا ولم نكسب الآخر.
ويتابع الغامدي مستشرفا للمرحلة القادمة في المشهد الثقافي العربي عامة، والسعودي على وجه الخصوص، يقول “نحن الآن محكومون بالعالم الذي نسكنه.
وفي سؤال عن تجدّد المواقف على المستوى العربي؛ الربيع وما بعده، وإن كان يرى أنه بالإمكان خلق هوية جامعة للمثقف السعودي بتعدّد أطيافه وانتماءاته؟ يجيب الغامدي: مع الأسف صوت المثقف ليس مسموعا، ما لم يتخندق في تيار سياسي معين، أو اتجاه شعبوي ما: ما لم يتحول إلى “طبال”، في حفلة التهريج والرقص التي تحيط بنا من كل جانب.
نحتاج إلى سنوات طويلة لفهم الدور الحقيقي للثقافة والمثقف؛ المثقف الناقد الذي يتعالى على ترهات السياسة وألاعيبها، والذي لا يكرس مواهبه لصناعة الأوهام. ليس في الأفق -رغم كل التحوّلات- ما يدل على أننا في الطريق إلى نوع من هذه الثقافة والمثقفين.