متساكنو الأرياف في مصر يتمردون على إجراءات الحكومة لخفض المواليد

يؤكد مستشارو العلاقات الأسرية في مصر أن هناك فجوة بين الحكومة والسكان في مجال تنظيم النسل، ذلك أن شريحة معتبرة من الأسر التي تعيش في المناطق الأكثر إنجابا لا تعرف الكثير عن تفاصيل خطط الحكومة، وربما لا تريد استيعاب خطابها في حين تنصت لخطاب رجال الدين المشجع على الإنجاب. ويوجه المختصون دعوة إلى الحكومة بأن تتوجه بخطابها إلى فئة الشباب عوض الآباء والأجداد.
القاهرة - عكست إحصائية أعلنها جهاز الإحصاء الرسمي في مصر قبل أيام حول معدلات الإنجاب في البلاد، ارتفاع نسب التمرد الأسري في المناطق الريفية والحدودية والقبلية، ضد خطط المؤسسات الصحية الرسمية، والتي لم تترك بابا إلا وطرقته من أجل إقناع الأهالي بضرورة الالتزام بتنظيم النسل والكف عن استسهال إنجاب الأطفال، من دون أن تجني الحكومة من وراء ذلك نتائج ملموسة.
وكشفت الإحصائية وجود محافظات حضرية وصلت معدلات المواليد فيها إلى إنجاب 1.54 طفل لكل سيدة، بينما ارتفعت نسبة الإنجاب في بعض الأقاليم الريفية لتصل إلى 4.75 طفل لكل سيدة، ما يؤكد استمرار ارتفاع معدلات المواليد في تلك المناطق، ما يعني وجود تمرد ملحوظ على خطط الحكومة المرتبطة بخفض الإنـجاب.
وأظهرت تلك المعدلات أن الخطاب الرسمي المرتبط بالتوعية من مخاطر كثرة الإنجاب لم يصل بعد إلى شرائح أسرية تُصنّف على أنها السبب الرئيسي في الزيادة السكانية (يبلغ عدد سكان مصر 110 مليون نسمة)، ولا يزال الوعي المتعلق بالصحة الإنجابية يتجاهل ما يحدث في المناطق الريفية والقبلية والشعبية التي تتعامل مع كثرة عدد الأبناء باعتبارهم “عزوة” أو سندا اقتصاديا لرب الأسرة.
وجزء من المشكلة أن شريحة معتبرة من الأسر التي تعيش في المناطق الأكثر إنجابا، لا تعرف الكثير عن تفاصيل خطط الحكومة، وربما لا تستوعب خطابها المعلن، وتصدق فقط الشيوخ الذين يشجعون على كثرة المواليد ويحتكون بالشارع أكثر من المؤسسات العاملة في مجال تنظيم الأسرة، وثمة فجوة بين الحكومة والسكان في مجال تنظيم النسل.
وتتحمل السلطات الصحية قدرا كبيرا من مسببات أزمة زيادة الإنجاب في المناطق الريفية، حيث اعتادت تركيز جهودها على الآباء والأجداد ولا توجه الخطاب إلى الشباب والفتيات باعتبارهم سوف يصبحون أرباب أسر في المستقبل القريب، وهؤلاء يحصلون على معلوماتهم حول الإنجاب من عائلات لا تؤمن بعملية تنظيم النسل.
◙ الوعي المتعلق بالصحة الإنجابية لا يزال يتجاهل ما يحدث في المناطق الريفية التي تتعامل مع كثرة عدد الأبناء باعتبارهم "عزوة"
وأمام ارتفاع معدلات الأمية في المناطق الريفية في مصر إلى مستويات قياسية، من الطبيعي أن تكون هناك أزمة بشأن استيعاب تلك الشريحة للخطاب التوعوي المرتبط بالصحة الإنجابية، وتجهل الكثير من الأسر الحد الأدنى من المعرفة بسياسة الحكومة حول أيّ من القضايا الأسرية، ومع ذلك لا يحدث التواصل المباشر مع الناس.
ويصعب فصل ارتفاع معدلات المواليد في المناطق الريفية عن الأرقام التي أعلنها جهاز الإحصاء الحكومي قبل أيام، بأن عقود الزواج في تلك البيئات ارتفعت لتصل إلى 59.6 في المئة مقابل 40.4 في المئة في المناطق الحضرية، وكانت النسبة الأكبر من المتزوجين في الريف من فئة عشرين عاما فأكثر قليلا، عكس الحضر.
ويرى خبراء أن تراجع معدلات الإنجاب في الحضر مقارنة بالريف لا يعني نجاح خطط الحكومة في تغيير قناعات الأسر، لكن الظروف المعيشية قادت النسبة الأكبر من العائلات التي التزمت بتنظيم النسل إلى هذا الخيار مدفوعة بعدم القدرة على الوفاء باحتياجات الأبناء المادية، واكتفت بعدد محدد من الأبناء أمام موجات الغلاء.
ويعتقد هؤلاء الخبراء أن مواجهة السلوكيات الخاطئة حول كثرة الإنجاب في بعض المناطق، تبدأ من الاستماع إلى مبررات الأسر التي لا تستوعب خطاب تنظيم النسل أو تعترف به، وتحديد الأسباب التي تدفع تلك الشريحة إلى زيادة المواليد، وعلى هذا النحو يتم الإعداد لخطاب توعوي يدحض تلك القناعات بأسلوب علمي وديني واجتماعي بسيط يقبله الناس.
وما لم يكن هناك تثقيف أسري يتناغم مع نظرة الأسر الريفية لكثرة الإنجاب، فإن الحكومة سوف تظل تواجه معضلة حقيقية ترتبط بتوريث الأفكار العائلية القديمة إلى الأجيال الجديدة، ما يتطلب الاحتكاك المباشر مع السكان بذهاب المؤسسات المختصة بشؤون الأسرة إلى الأهالي عند أبواب منازلهم، بعد تحديد المناطق الأكثر استسهالا لزيادة الأبناء.
وأقرت الحكومة المصرية تشريعات تحمل صبغة عقابية للأسر المسرفة في الإنجاب، وقصرت الدعم على بعض السلع والخدمات على طفلين فقط، لكن تظل المواجهة الفكرية في القضايا المعقدة، مثل كثرة الإنجاب، أهم من أية تشريعات، لأن المبرر يتعلق بوجود توصية دينية وعرف مجتمعي يكرس التمرد على الخطاب الرسمي.
كما أن الطعن في القناعات الأسرية حول الإنجاب لا يجب أن يُختزل في الحلال والحرام، لأن هناك متشددين يقنعون الناس بخلاف ما تروج له المؤسسات الدينية الرسمية من حيث إباحة تنظيم الأسر وخفض المواليد، ومن المهم تفنيد ادعاءات كثرة الإنجاب بتوعية متشعبة لا تترك ثغرة مع مراعاة أن النسب الأكبر من سكان المناطق الريفية أميون.
وقالت استشارية العلاقات الأسرية وتقويم السلوك في القاهرة هالة حماد إنه يصعب تغيير قناعات الريف عن الإنجاب إلا بضرب المعتقدات القديمة، لأن من نشأ وعاش على أن كثرة الإنجاب طلب إلهي يصعب إقناعه بعكس ذلك، إلا إذا اقتنع بخطاب يناسب فهمه، يتطلب النزول إلى الأرض والتحدث إلى الرجال والنساء بما يناسب أسلوب حياتهم. وأضافت في تصريح لـ”العرب” أن مشكلة خطاب تنظيم النسل أنه كان يعتمد على إقناع الزوجة وحدها بخفض الإنجاب، مع أن المرأة في المناطق الريفية والحدودية والقبلية مغلوبة على أمرها، لأنها مطالبة بالإنجاب التزاما بالعادات والتقاليد التي تفرضها البيئة الاجتماعية، ومن الضروري تغيير قناعات الرجل نفسه بأن زيادة الأبناء خطر على الأسرة.
وأصبحت الحكومة مطالبة بتعديل خطابها الشامل حول تداعيات الزيادة السكانية، دون أن تختزل الأزمة في أنها تشكل خطورة على مشروعات التنمية، لأن الفئة المستهدفة من هذا الخطاب لديها قناعات مضادة حيث تتعامل مع زيادة المواليد بنظرة اقتصادية، ولن يختار هؤلاء مصلحة الحكومة على حساب مصالحهم الأسرية بشأن عوائد تشغيل الأبناء.
وأشارت هالة حماد إلى وجود شريحة كبيرة من الأسر الريفية لديها قناعة راسخة بأن رزق الأبناء يأتي من الخالق وليس الحكومة، ويرفض هؤلاء التدخل في شؤون حياتهم لتغيير ثقافة العزوة بالترغيب أو الترهيب، ما يؤكد الحاجة إلى التحرك التوعوي والعمل في مسارات جديدة في ظل ارتفاع معدلات الأمية، مع محاولة استقطاب المراهقين والشباب بعيدا عن أسرهم.
ومن شأن الاهتمام بتوعية الأجيال الصاعدة، بحسبانها من أرباب أسر المستقبل، أن يؤدي إلى استمالتها بعيدا عن الميراث الأسري القديم بشأن الإنجاب، لأن الاكتفاء بحملات تنظيم الأسرة إعلاميا لن يصلح أفكار الآباء والأجداد، كما أن الفتاوى الرسمية حول النسل لا تصل إلى الأميين، والحل في المناهج الدراسية لممارسة التوعية المقنعة عبر المسار التعليمي.