"آسر" يرسم رحلة انتقام بين الوهم والحقيقة

النساء في المسلسل محور الأزمات وصانعات المصائر.
الجمعة 2025/05/23
المرأة بين الضحية والقوية

كان مسلسل "إيزل" الذي عرض عام 2009 من أول الأعمال الدرامية التي عرّفت الجمهور العربي على الدراما التركية، وحقق نجاحا كبيرا، وهو اليوم يعرض معرّبا إلى اللهجة السورية، وبممثلين سوريين ولبنانيين، تحت عنوان "آسر" ويحصد نسب متابعة عالية حيث جذبت حكاية الانتقام الشهيرة والمكائد المشتعلة بين الأبطال الجمهور لمتابعة الحلقات بشغف.

في عالم الدراما العربية، قلّما نجد عملا يمتلك القدرة على نسج خيوط متشابكة من المشاعر الإنسانية والصراعات النفسية مثل مسلسل “آسر”، فهذا العمل لا يكتفي بسرد قصة انتقام تقليدية بل يغوص في أعماق الشخصيات ليكشف عن تناقضاتها، هشاشتها، وقدرتها على التحول تحت ضغوط الماضي، ومن خلال تتبع أحداث العمل يمكننا رصد تحولات عميقة في البنية الدرامية، تدفع المشاهد إلى التساؤل عن طبيعة العدالة، الثقة، وحتى مفهوم البقاء في عالم يبدو فيه كل شيء قابلا للانكسار.

والمسلسل هو النسخة العربية للمسلسل التركي “إيزل”، وتشارك فيه مجموعة من الممثلين المشهورين مثل باسل خياط، باميلا الكيك، سامر المصري، خالد القيش، زينة مكي، طلال مارديني، لجين إسماعيل، نادين خوري، مجدي مشموشي، عباس النوري، ريم خوري، ورد عجيب، زهير عبدالكريم، وسلطان ديب وعدنان أبوالشامات.

دراما معرّبة تغوص في أعماق الشخصيات لتكشف عن تناقضاتها، هشاشتها، وقدرتها على التحول تحت ضغوط الماضي
دراما معرّبة تغوص في أعماق الشخصيات لتكشف عن تناقضاتها، هشاشتها، وقدرتها على التحول تحت ضغوط الماضي

تبدأ القاعدة الدرامية لـ”آسر” بفكرة بسيطة: شاب يُخدع من أقرب الناس إليه، يُسجن ظلما، ثم يعود لينتقم، لكن المسلسل يتجاوز هذا الإطار ليرسم لوحة معقدة من الدوافع والتداعيات، حيث نرى آسر (باسل خياط) لا يريد فقط معاقبة خائنيه، بل يسعى إلى كشف زيف العلاقات التي دمّرت حياته. هنا، يصبح الانتقام وسيلة لفهم الذات قبل أن يكون عقابا للآخرين.

وفي المشاهد التي يتفاعل فيها مع حياة (باميلا الكيك) أو راغب (خالد القيش)، نلاحظ أنه لا يكتفي بإيقاع الأذى بهم، بل يريد أن يراهم ينهارون بالطريقة ذاتها التي انهار بها مجد، وهذا النوع من الانتقام القائم على المعاناة النفسية أكثر من العقاب الجسدي هو ما يجعل المسلسل متميزا، فالمشاهد يشعر بأن آسر نفسه ضحية لخطته، إذ يجد أنه كلما اقترب من هدفه، ابتعد عن سلامه الداخلي.

ولعل من أكثر الأفكار إثارة في المسلسل هي كيف تُبنى العلاقات على أسس واهية؟ إذ نرى حياة التي تزوجت راغب بعد خيانة مجد، تعيش في قلق دائم من اكتشاف حقيقتها، كذلك ناي (زينة مكي) التي تقترب من آسر دون أن تعرف ماضيه، تكرر – دون وعي – ديناميكية العلاقة ذاتها التي دمرته سابقا، وحتى عزت (سامر المصري)، الذي يبدو أكثر الشخصيات شراسة، يظهر في لحظات ضعف توحي بأن خيانته لمجد كانت نتاج خوفه من فقدان مكانته.

ويعد المشهد الأكثر قوة في هذا السياق هو لقاء حياة بوالدة مجد عند القبر، حيث تظهر هشاشة حياة رغم كل ما تظهره من قوة. إن المسلسل يطرح سؤالا جريئا: هل الخونة أنفسهم ضحايا لخياراتهم؟

لقد سعى العمل لإبراز العلاقة بين السلطة والضعف ودورهما في التحكم بالمصائر، فالسلطة في “آسر” ليست مقتصرة على الأثرياء مثل راغب أو الأقوياء مثل عزت، بل تمتد إلى الشخصيات التي تبدو هامشية، مثل الخال رستم (عباس النوري) الذي يبدو مثالا صارخا على ذلك، رغم أنه خارج السجن الآن، إلا أن نفوذه لا يزال يتحكم في مصائر الكثيرين، بما في ذلك آسر نفسه، كما أن المفارقة تبدو حين يقدم رستم نفسه كمنقذ، لكنه في الحقيقة يكرس ثقافة الانتقام بدلا من كسرها.

من جهة أخرى، فإن رامي (ورد عجيب) – شقيق مجد – يمثل القوة الوحيدة التي لا تعتمد على المال أو العنف، بل على الإصرار في البحث عن الحقيقة عبر تحقيقه في ماضي أخيه يهدد كل الشخصيات، لأنه يكشف أن السلطة الحقيقية تكمن في المعرفة، لا في القوة المادية.

pp

أما المرأة في هذا العمل فقد اختارت لها طريقا بين الضحية والقوة، فعلى الرغم من أن النساء في “آسر” هن محور الأزمات، لكنهن أيضا صانعات المصائر، حياة ليست مجرد خائنة، بل هي امرأة عاشت في مجتمع ذكوري دفعها إلى الاختيار بين البقاء أو الانهيار، كما أن ناي التي تعاني من مرض خطير، ترفض أن تكون عالة على شقيقتها، وتختار أن تعيش بقية أيامها بشجاعة، حتى لارا (ريم خوري)، التي تظهر كشخصية ثانوية، تثبت أنها قادرة على اللعب في عالم الرجال عندما يتعلّق الأمر بمصالحها.

هذه التركيبة المعقدة للشخصيات النسائية تجعل المسلسل يتجاوز الصورة النمطية للمرأة في الدراما العربية، سواء كضحية أو كشريرة، بدلا من ذلك، نرى نساء يكافحن في نظام اجتماعي قاس، يجعلهن يدفعن ثمن أخطاء الآخرين.

ومن أكثر العناصر غرابة في المسلسل هو كيف يُعاد إحياء الماضي بأشكال مختلفة، فآسر يعود بوجه جديد، لكن ذكرياته تطارده في كل مكان، وحياة تعيش في قصر فاخر، لكنها لا تستطيع الهروب من شبح مجد، حتى رامي، الذي لم يعش التفاصيل الدقيقة للخيانة، يجد نفسه مجبرا على مواجهة ماض لا يخصه مباشرة.

في الحلقة 21، عندما يزور آسر وعزت سجن عدرا، نرى كيف أن المكان نفسه يحمل ذكريات مؤلمة للجميع. السجن هنا ليس مجرّد موقع درامي، بل هو استعارة للذاكرة التي لا يمكن الهروب منها.

حتى هذه المرحلة من المسلسل، يبدو أن آسر عالق في دوامة لا تنتهي، خطته الذكية تنجح في إيقاع الخونة في شباكه، لكنه يدفع ثمنا غاليا: فقدان إنسانيته تدريجيا، ولعل المشهد الذي يصرخ فيه رامي بعد سماعه الأكاذيب عن شقيقه، أو اللحظة التي تبكي فيها ناي وهي تعترف بضعفها لآسر، كلها تذكرنا بأن الانتقام لا يبني شيئا، بل يدمّر الجميع.

الشخصيات النسائية تتجاوز الصورة النمطية للمرأة في الدراما العربية إذ نرى نساء يكافحن في نظام اجتماعي قاس
الشخصيات النسائية تتجاوز الصورة النمطية للمرأة في الدراما العربية إذ نرى نساء يكافحن في نظام اجتماعي قاس

إحدى نقاط القوة في آسر هي تعقيد الشخصيات، إذ لا يوجد شرّيرٌ مطلقٌ أو ضحيةٌ بريئة تماما، حتى الخونة لديهم دوافعهم التي تجعلهم، إن لم يكن مبرّرين، فمفهومين على الأقل. وحياة على سبيل المثال تبدو كالخائنة القاسية، لكنها أيضا ضحية لمجتمع ذكوريّ دفعها لاختيار البقاء على حساب حبها. حتى راغب صديق مجد السابق، يظهر كشخص أناني، لكنه في لحظات معينة (مثل اعترافه بذنبه أمام آسر) يكشف عن هشاشة غير متوقعة.

وهناك عزت الذي ربما يكون الأكثر شراسة، لكن ماضيه مع مجد يُظهر أن خيانته كانت نابعة من خوف وجودي على مكانته. والخال رستم الذي يبدو كالمُرشد الحكيم، هو أيضا لا يخلو من دوافع غامضة، هل هو حقّا يساعد آسر، أم أنه يستخدمه كأداة في لعبة أكبر.

ومع انضمام عدنان أبوالشامات كعدوّ للخال رستم، تظهر تحالفاتٌ جديدة وتنكشف خفايا أعمق، لكن السؤال الأكبر يبقى: هل سينجح آسر في تحقيق انتقامه، أم أنه سيكتشف أن العدالة الحقيقية ليست في العقاب، بل في التحرّر من الماضي؟

15