"صلاة القلق" تحصد البوكر بتفكيكها آليات صناعة الوهم

أبوظبي - أعلن مركز أبوظبي للغة العربية عن الرواية الفائزة للعام 2025 خلال حفل في الإمارات، قبل افتتاح معرض أبوظبي الدولي للكتاب.
وكانت الجائزة العالمية للرواية العربية قد أعلنت عن روايات القائمة القصيرة في دورتها الثامنة عشرة، وهي “دانشمند” لأحمد فال الدين، و”وادي الفراشات” لأزهر جرجيس، و”المسيح الأندلسي” لتيسير خلف، و”ميثاق النساء” لحنين الصايغ، و”صلاة القلق” لمحمد سمير ندا و”ملمس الضوء” لنادية النجار.
تبلغ القيمة المالية للجائزة التي يرعاها مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي 50 ألف دولار.
وفاز محمد سمير ندا بالجائزة لهذا العام، عن روايته “صلاة القلق” وهذا الفوز ليس مجرد تتويج لعمل أدبي استثنائي، بل هو اعتراف بصوت روائي مبدع يصوغ العالم بعمق شعري ورؤية فلسفية جريئة، الرواية، التي صدرت عن دار ميسكلياني في تونس، تخطف القارئ إلى عالم غرائبي يمتزج فيه الواقع بالأسطورة، والتاريخ بالخيال، لترسم صورة مركبة لجيل عربي حوصر بين شعارات زائفة وهزائم مرّة، من خلال قرية منعزلة تدعى “المناسي”.
يحفر ندا في جروح الذاكرة الجماعية، مستخدما تقنيات سردية مبتكرة تدفع القارئ إلى التساؤل: من يكتب التاريخ؟ ومن يمسك بخيوط الوعي؟ الرواية لا تروي حكاية فحسب، بل تفكّك أيضا آليات صناعة الوهم، وتكشف كيف تُختَطَف العقول تحت رايات الزعيم والوطن.
في رواية “صلاة القلق”، ينسج محمد سمير ندا عالما روائيا مدهشا يجسد الواقع عبر عدسة الفانتازيا السوداء، حيث تتحول القرية المصرية النائية إلى مسرح لصراع وجودي بين الوهم والحقيقة، بين السلطة والعبث، بين التاريخ الرسمي والذاكرة المنسية، الرواية ليست مجرد سرد لأحداث، بل هي تشريح لجروح أمة تعيش في ظل هزائم متكررة، تبدأ من نكسة 1967 وتمتد إلى حرب أكتوبر وما بعدها، لكنها تظل حبيسة خطاب سياسي يبيع الأوهام ويخدر الجماهير بأغاني النصر والخطب العصماء.
ولعل أهم ما يميز “صلاة القلق” هو بناؤها السردي المعقد، حيث تُروى الأحداث عبر ثماني شخصيات، كل منها تحمل روايتها الخاصة للحدث ذاته: سقوط النيزك الغامض (أو القذيفة، أو القمر الاصطناعي) الذي يغير مصير القرية، هذا التعدد يخلق فسيفساء من الحقائق المتضاربة، وكأن الكاتب يقول إن التاريخ لا يُكتب برواية واحدة، بل بتأويلات لا تنتهي، الشخصيات، من نوح النحال الثائر إلى وداد القابلة الغامضة، ليست مجرد أسماء، بل هي رموز لشرائح اجتماعية تحمل جراحا مختلفة: الخوف، الخيانة، العجز، والبحث المستميت عن معنى في عالم فقد معناه، واللغة هنا ليست وسيلة للسرد فقط، بل هي جزء من عالم الرواية: شعرية حين تصف الغروب، خشنة حين تعبّر عن الغضب، سريالية حين تختلط الكوابيس بالواقع، ندا يمتلك قدرة نادرة على تحويل الكلمات إلى صور حية، مثل مشهد “رؤوس البشر التي تتحول إلى سلاحف”، أو “التمثال مقطوع الرأس الذي يمشي ليلا”، هذه الصور لا تخدم الجماليات فحسب، بل تجسّد أيضا الانهيار النفسي والاجتماعي لشعب يعيش تحت وطأة الخداع.
فهذه الرواية تسخر من الخطاب الرسمي الذي يحوّل الهزائم إلى انتصارات، عبر شخصية خليل الخوجة، تاجر القرية الذي يتحكم في الأخبار ويطبع صحيفة “صوت الحرب”، ويكرر شعارات النظام عن “النصر القريب”، فالخوجة ليس مجرد شخصية شريرة، بل هو تجسيد للآلة الدعائية التي تزرع الأمل الزائف في قلوب الناس، إن اختيار عبدالحليم حافظ كخلفية موسيقية للرواية ليس بريئا، فأغانيه الوطنية (“عدي النهار”، “أحلف بسماها”) تتحول إلى أداة لتزييف الوعي، حيث تذاع في القرية بينما يعيش أهلها في جحيم العزلة والمرض، هذه الرواية تطرح أسئلة وجودية: مَن يكتب التاريخ؟ هل هو المنتصر أم الضحية؟ هل الحرب حقيقة أم سيناريو مُخرَج بعناية؟ النص يعيد تعريف “الوطن” ليس كمكان جغرافي، بل كسجن كبير يُحكم إغلاق أبوابه بالشعارات، حتى الدين يُستغل كأداة للخضوع، عبر “صلاة القلق” التي يبتكرها الشيخ أيوب؛ طقوس بلا ركوع أو سجود، كأنها صرخة في وجه قدر لا يُفهم.
وتكمن المفارقة العبقرية في الرواية في اكتشاف أن الراوي هو “حكيم” ابن الخوجة الأخرس، الذي يكتب كل هذه الأحداث من مصحة عقلية، هذه النهاية لا تُقوّض مصداقية السرد، بل تفتح الباب لتأويلات لا نهائية: هل القرية حقيقية أم مجرد هلوسة؟ هل الحرب مستمرة أم انتهت منذ زمن؟ وهل ما نقرأه هو رواية أم مخطوطة لمجنون؟ هنا يتحول الأدب من سرد إلى مرآة تعكس هشاشة الحد الفاصل بين الحقيقة والوهم.
لقد فازت رواية “صلاة القلق” بالبوكر لأنها تستحق الجائزة ولأنها تتفوق في كل عناصر الرواية العظيمة، في العمق الفكري، إذ تحفر في أسئلة الهوية والسلطة دون وعظ مباشر، كما انها تتفوق في عنصر الابتكار السردي حيث تعدد الأصوات، والانزياح الزمني، واللعب بحدود الواقعي والخرافي، كما لعب عنصر القوة الجمالية دورا حاسما، فقد كانت اللغة غنية تتراوح بين الشعرية والواقعية القاسية، ولا يمكن تناسي الجرأة التي امتلكتها الرواية، إذ كشفت عن آليات صناعة الطغاة، ومساءلتها لثوابت “الوطن” و”النصر”.