من صخب البحر إلى صراع الاستعمار.. "البوم" حكاية بحار لا يغرق

مسلسل "البوم" عمل درامي يغوص في أعماق الماضي ليكشف عن طبائع البشر في زمن كانت فيه التجارة البحرية ساحة للصراع.
الثلاثاء 2025/04/22
لوحة بصرية أخاذة

في عالم الدراما التلفزيونية التي تتسابق فيها الأعمال لفرض حضورها، يأتي مسلسل “البوم” الجزء الثاني كصرح فني شامخ، يحمل بين طياته عبق التاريخ وصخب البحر، وهموم الإنسان الذي يتحدى المصاعب بقلب بحارٍ يعرف أن الأمواج العاتية لا تُغرق من يصنع من الأمل شراعا.

هذه الملحمة الإماراتية، التي أبدعها الكاتب التونسي عمادالدين الحكيم وأخرجها الأسعد الوسلاتي، ليست مجرد سرد درامي تقليدي، بل هي رحلة غوص في أعماق الماضي، حيث كانت السفن الشراعية جسورا تربط بين الحضارات، وحيث كان البحارة روادا حقيقيين، يخاطرون بأرواحهم في مواجهة رياح المصير المجهول.

يواصل الجزء الثاني من “البوم” حكاية البحار الإماراتي شهاب، الذي يجسد دوره الممثل عمر الملا، في رحلة جديدة تزيد من تعقيد التحديات، وتكشف عن طبائع البشر في زمن كانت فيه التجارة البحرية ساحة للصراع بين الطموح الفردي والمؤامرات الاستعمارية. هذا المسلسل، الذي صور بين الإمارات وسريلانكا، يقدم لوحة بصرية أخاذة، تلتقط تفاصيل البيئة البحرية بكل ما تحمله من جمال وقسوة، فالمشاهد لا يرى فقط الأمواج المتلاطمة والسفن الخشبية التقليدية، بل يسمع همسات البحارة، ويتذوق رائحة الملح، ويشعر بثقل التعب على أجساد الرجال الذين يحملون على أكتافهم أحلاما أكبر من محيط.

لا يكتفي العمل بسرد مغامرات شهاب التجارية، بل يغوص في تعقيدات العلاقات الإنسانية، فبينما يحاول توسيع نشاطه التجاري إلى سواحل سريلانكا، يواجه أزمات عائلية تبدأ برفض زوجته خولة فكرة زواجه الثاني، وتنتهي بمواجهة مرض الجدري الذي يحصد أرواح الأبرياء، هنا يتحول شهاب من بحارٍ مغامر إلى رمز للصمود، حيث يكافح المرض ثم يعود لمواصلة رحلته، حاملا معه أعباء القلب المكسور والضمير المثقل.

وفي خط موازٍ تبرز شخصية حمدان (الممثل بدر حكمي) كشخصية تراجيدية بامتياز، وهو الجندي السابق الذي يفقد ساقه ويحاول خداع البريطانيين بانتحال شخصية ضابط، ثم يعثر على طفل رضيع فيقرر تبنيه، هو نموذج للإنسان الذي يبحث عن خلاص في عالم لا يرحم الضعفاء، علاقته بالطفل تمنح العمل لمسة إنسانية عميقة تذكرنا بأن الحرب والتجارة والصراعات لا تستطيع قتل الإحساس بالأبوة.

وقد أظهر العمل مواجهة خفية مع الاستعمار، حيث لا يظهر الصراع مع البريطانيين كمعركة دموية مباشرة، بل كحرب باردة تخاض في الموانئ والمكاتب، وأظهر أوليفر الضابط البريطاني الذي لا يحتاج إلى رصاصة ليهزم شهاب، بل يكفيه منع استيراد التمور أو إغلاق المتجر في سريلانكا، ولعل هذه التفاصيل تكشف كيف كانت القوى الاستعمارية تستخدم الاقتصاد كسلاح لإخضاع الشعوب، لكن العمل لا يقدم الشخصيات الإنجليزية كأشرار نمطيين، توماس وأوليفيا مثلا، واللذان يحملان لقاح الجدري إلى رأس الخيمة، في إشارة إلى أن الاستعمار لم يكن كتلة واحدة، بل فيه أفراد قادرون على التعاطف مع معاناة الآخرين.

وعلى الطرف الآخر تبرز المرأة في هذا العمل كصوت خافت لكنه مؤثر، فعلى الرغم من أن العمل يركز على عالم الذكور البحري، إلا أن المرأة تظهر كشخصية محورية، وإن بشكل غير مباشر، إذ نرى خولة التي تواجه قرار زوجها بالزواج الثاني، وترنم التي تلد طفلاً ثم تفقد سند (أحد أفراد العائلة)، وماهيندا التي تساعد في تحرير السجناء، وكلها نماذج لنساء صنعن التاريخ من خلف الكواليس، أما مشاهد المدرسة التي يحرقها مصبح (جابر) لأنه يرفض تعليم النساء، فتكشف عن معركة أخرى خاضها المجتمع بين التقاليد المتحجرة ورياح التغيير. هنا يصبح عبدالرحمن المدرس (عبدالله بن حيدر) رمزاً للتنوير، والذي يصر على إعادة بناء المدرسة رغم تعرضه للضرب والتهديد.

مسلسل “البوم” لم يكن عملا دراميا عاديا، بل هو مشروع ثقافي يستحق الدراسة، فالديكورات الدقيقة التي تعيد بناء الموانئ القديمة، والملابس التي تحاكي حقبة الأربعينات من القرن الماضي، والسفن الشراعية المصنوعة يدويا، كلها تفاصيل جعلت المشاهد يعيش الزمن القديم بكل حواسه، في حين بدت الحوارات مزيجا بين اللهجة الإماراتية الأصيلة ولغة درامية مشحونة بالعواطف، دون أن تقع في فخ التعقيد اللغوي، مشهد مثل “شهاب يرفض ترك ركاب السفينة الفقراء” الذي لم يكن مجرد لحظة درامية، بل هو بيان عن أخلاقيات التجار العرب الذين كانوا يرون البحر مهنة وإنسانية قبل أن يكون مصدر رزق.

إن مسلسل “البوم” ليس مسلسلاً فحسب، بل هو رسالة من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، فهذا العمل لا يروي قصص الماضي فحسب، بل يطرح أسئلة الحاضر: كيف نواجه التحديات الاقتصادية اليوم؟ هل نحن أقوى من أجدادنا الذين عبروا المحيطات بسفن خشبية؟ كيف نحمي هويتنا في عصر العولمة؟

14