غياب المجالس المحلية يُعمّق الفساد الإداري في مصر

تواجه الحكومة المصرية صعوبات في مكافحة ظاهرة الفساد التي تفشت بشكل كبير في الجهاز الإداري للدولة، ويعود ذلك إلى غياب الأجهزة الرقابية على غرار المجالس المحلية.
القاهرة- واصلت الحكومة المصرية دفع فواتير سياسية باهظة، بسبب استمرار التراخي في إجراء انتخابات المحليات وتشكيل مجالس محلية رقابية، وما ترتب عليه من تضخم الفساد الإداري الذي ظهر أخيرا بالقبض على ستة عشر مسؤولا كبيرا بتهمة تلقي رشاوى واستغلال نفوذ لتسهيل ارتكاب مخالفات بناء، في حين تسعى الحكومة لغلق هذا الملف لتداعياته الأمنية والاقتصادية.
وأعلنت هيئة الرقابة الإدارية (أعلى جهاز رقابي على الحكومة) أن بعض المسؤولين المحليين استغلوا سلطاتهم في تحقيق منافع مادية غير مشروعة من بعض المقاولين وأصحاب العقارات مقابل تمكينهم من ارتكاب مخالفات بناء حديثة والتغاضي عن اتخاذ الإجراءات القانونية بشأنها، ثم اعتبارها مخالفات قديمة تجوز تسويتها والتصالح فيها مع الدولة.
ويصطدم التحرك الحكومي نحو مطاردة التشكيلات الإجرامية في الجهاز الإداري بارتفاع نبرة الغضب الشعبي من تجاوزات موجودة داخل المحليات يرى مواطنون أنها تعج بالمخالفات وتعرقل خطط التنمية الطموحة التي تنشدها الدولة لكونها بعيدة عن أعين الأجهزة الرقابية، والبعض من المسؤولين يرتكب مخالفات جسيمة لا يتم كشفها بسهولة.
وتعمل الحكومة على وقف مخالفات البناء ومنع تقليص الرقعة الزراعية بما يؤثر على ملف الغذاء كأمن قومي، وفتحت باب التصالح على بعض المخالفات القديمة مقابل مبالغ مالية وحظرت التصالح مع أي مخالفات حديثة، ثم اكتشفت أخيرا أن هناك مسؤولين محليين يتحايلون على القانون ويستغلون مناصبهم بتسهيل البناء المخالف نظير تلقي رشاوى.
والمفاجأة أن بين المتهمين سكرتير عام مساعد إحدى المحافظات، ورئيس سابق لجهاز التفتيش الفني على أعمال البناء، ورئيس حي كبير، وعدد من المسؤولين البارزين، ما دفع رئيس الحكومة مصطفى مدبولي لعقد اجتماع سريع مع حكام الأقاليم ومديري الأمن في عموم الدولة وتحدث إليهم بنبرة حادة، وتعهد بأن جزءا من تقييم أدائهم سيكون مرتبطا بوقف المخالفات.
وشدد رئيس الحكومة على أن الدولة لن تفتح باب التصالح على مخالفات حديثة مرة أخرى، وستتم الإزالة على الفور، ولا يجب التحرك متأخرا لمواجهة أية خروقات، مؤكدا أن هذا الملف تم غلقه كليا، وهي رسالة عبّرت عن مخاوف حكومية متصاعدة من استمرار البناء العشوائي وما يحمله من مخاطر كبيرة على الاقتصاد وزيادة الفجوة الغذائية.
وجاءت تحذيرات مدبولي في الوقت الذي تخلو فيه مصر من أي رقابة محلية، لأن البلاد لا توجد فيها مجالس محلية منتخبة منذ ثورة 25 يناير 2011، حيث تم حلها بحكم قضائي بسبب ارتكاب مخالفات وتعهدت حكومات متعاقبة أكثر من مرة بإجراء الانتخابات، لكن ذلك لم يحدث لأسباب سياسية وأمنية، وأصبح عبء التصدي للفساد مهمة ثقيلة على الأجهزة الرقابية.
ويمنح الدستور المصري أعضاء المجالس المحلية صلاحيات واسعة، وبإمكانهم سحب الثقة من رئيس الحي ومحاسبة محافظ الإقليم لأن تلك المجالس تضم جهازا تنفيذيا وآخر شعبيا يراقب المسؤولين ويحاسبهم على الخروقات، لكن الحكومة استبدلت تلك المجالس بالاستعانة بعدد من أصحاب الخلفيات الأمنية لشغل مناصب محلية.
واعتقدت دوائر قريبة من السلطة بأن وجود شخصيات أمنية على رأس المحليات قد يُحجم وقائع الفساد ومخالفة القوانين ويتعامل بصرامة مع الخروقات، إلى حين إجراء انتخابات تأتي بمجالس محلية وشعبية تراقب وتُحاسب، لكن تلك المعادلة لم تحقق الغرض منها وأصبح ضبط المتهمين بتلقي رشاوى ظاهرة متكررة تعكس خطورة غياب الرقابة المؤسسية.
وأصبحت تهمة الفساد مرتبطة بالمحليات في مصر، وهو ما ظهر بوضوح في ملف التصالح في مخالفات البناء الذي يُديره حكام الأقاليم بشكل شبه كامل، حتى باتت خيارات الحكومة محدودة للغاية، فهي ترفض أن تتحول المواجهة مع المعتدين على الأرض إلى صدام أمني، ولا ترغب في استمرار الخروقات من خلال مسؤولين تابعين لها بما يسيء إليها سياسيا.
وهذه ليست المرة الأولى التي تُصدم فيها دوائر حكومية من حجم الفساد الذي سهّل مخالفات البناء، لأن مجلس النواب عندما فتح ملف العقارات العشوائية التي تستحق التصالح، اكتشف حصول بعض مسؤولي المحليات على مبالغ مالية كبيرة نظير منح تراخيص غير قانونية، أيّ أن الكثير من البنايات المخالفة جاءت بمساعدة محليات ليست عليها رقابة.
وترى دوائر سياسية في القاهرة أن أكبر أزمة تعاني منها الحكومة في القضاء على فساد المحليات مرتبطة بشقين، الأول أنها تخشى إجراء انتخابات تجلب معارضين شعبيين يثيرون منغصات سياسية لها، والثاني أنها تكتفي بتتبع تحركات وقرارات القيادات الكبيرة في المحليات، دون النظر إلى كوارث الصفين الثاني والثالث من المسؤولين في البلديات.
الحكومة المصرية تعمل على وقف مخالفات البناء ومنع تقليص الرقعة الزراعية بما يؤثر على ملف الغذاء كأمن قومي
أمام تلك المعضلة أصبحت بعض المؤسسات الرسمية تعيش في غيبوبة ولا تتحرك على مستوى الرقابة والتحقيق والمحاسبة والفحص والتتبع إلا بعد تحول الأمر إلى قضية فساد كبرى، لأن كل مسؤول يُراقب نفسه تقريبا أمام عدم وجود مساءلة من أجهزة أو مجالس محلية يفترض أن تشاركه في كل قراراته وتراجع نتائجها وقانونيتها.
وقال ناجي الشهابي، رئيس حزب الجيل، إن الأجهزة الرقابية بحاجة إلى مجالس محلية قوية للقضاء على الخروقات، لأن استمرار وجود وقائع فساد يعرقل التنمية ويؤثر على جهود الدولة في المجالات المختلفة، وبالتالي فإن مصر أصبحت في حاجة ملحة لمجالس محلية وشعبية لديها سلطة الرقابة والتتبع والمشاركة في صناعة القرار وتسريع معدلات التنمية.
وأضاف الشهابي في تصريح لـ”العرب” أن الحكومة لديها نية حقيقية لإجراء انتخابات المحليات فور الانتهاء من الاستحقاق الانتخابي لمجلسي الشيوخ والنواب، نهاية العام الجاري، بحيث تكتمل المجالس النيابية والمحلية وتكون هناك كوادر لديها قدرة على محاسبة المسؤولين عن القصور والإهمال والمخالفات، لأن الأجهزة الرقابية لن تفعل كل شيء وحدها.
ويوحي التراخي في حسم ملف انتخابات المحليات وعدم التعامل معه كأولوية سياسية بأن الحكومة ليست جادة في هذا الأمر وترفض أن تكون فاقدة للسيطرة على المجالس المحلية، لأنها أكثر احتكاكا مع الشارع من مجلسي النواب والشيوخ، فهي أقرب إلى برلمانات صغيرة موزعة على أقاليم الجمهورية، وتصل إلى القرى والأحياء والمدن، لكنها في مقابل ذلك تواصل تكبد خسائر سياسية مرتبطة بفساد وخروقات وتعطيل مصالح المواطنين والمستثمرين بشكل مثير للانتقاد.
وجزء أساسي من أزمة الحكومة يتمثل في أنها إن أجرت انتخابات المجالس المحلية فإنها لا تمتلك عناصر مدربة سياسيا لديها من الحنكة والخبرة في الرقابة واتخاذ القرارات ما يجعل النظام نفسه يدفع فاتورة هذا الإخفاق، لأن المحليات ستكون لديها السلطة المطلقة في اتخاذ القرارات المرتبطة بمختلف شرائح الجمهور، حيث سيتم تطبيق اللامركزية وفق الدستور.
وإلى حين توافر إرادة لتقوية المحليات مؤسسيا ورقابيا، ستظل الحكومة في ورطة تتضح ملامحها في اقتناع المسؤولين الكبار والصغار بأنه لا توجد مسؤولية تؤذيهم في مناصبهم، بما يجعل كلا منهم يتعامل مع المنصب باعتباره ملكية خاصة، وظهر ذلك في قضية فساد التصالح في مخالفات البناء، عندما تبين أن رئيس جهاز التفتيش السابق متهم بالرشوة.