العالم الذي انقلب بعد 7 أكتوبر

كان هناك عالم ما قبل 7 أكتوبر، وآخر بعده. حدث مفصلي أشبه ببوابة زمنية انفتح فيها كل شيء، من الذاكرة، الخرائط، الأقنعة، والحقائق. الجميع تأثر، بصرف النظر عن المواقف والانتماءات: من اتفق ومن اختلف، من رحّب ومن أدان، من كسب ومن خسر، من رقص ومن لعن. لم يبقِ الحدث حياة أحد كما كانت. لكن الحديث هنا لا يتناول الحكم على الحدث ذاته، بل عمّا أعقبه من تغييرات شاملة.
الحديث ليس عن غزة، ولا عن بقعة جغرافية مفصولة عن العالم شهدت تغييرات، بل عن شبكة من المواقف المتتالية القاسية التي غيّرت الإنسان. فمنذ أكثر من عام، والمجتمعات البشرية تتغير سياسيا، أخلاقيا، اقتصاديا، ثقافيا وإنسانيا. منذ ذلك اليوم، بدأت المنطقة والعالم بالتحرك وفق إيقاع مختلف. اهتزت المفاهيم المستقرة، وظهر وجه النظام العالمي على حقيقته مشوشا، عنيفا، أنانيا، طبقيا وعاجزا عن احتواء الفوضى.
شهدنا انكشافا واسعا في المنطقة، من انقسام داخلي حاد في الشرق الأوسط إلى خلافات قاتلة بين مكوناته، كره متعاظم، صراع متصاعد، شروخ تعجز المعجزات عن رأبها. هذه الفسيفساء في تركيبة الشرق الأوسط كانت لعنة، وظهر التأجيج الذي كان يُمارس لعقود طويلة. فمن المحال أن يظهر هذا الكره والشرخ والصراع بين ليلة وضحاها.
بات من الصعب تصديق الخطابات أو الوثوق بأيّ منظومة تدّعي تمثيل الإنسان والدفاع عنه. فأصبح الإنسان بشكل جلي مجرد تفصيل ثانوي في حسابات السلطة.
منذ عام ونصف تقريبا، انكشف عجز المنظومات الحقوقية، واختفت الخطوط الحمراء، وسقطت كل الخطابات. أصبح من الواضح أن الجميع يعمل لصالح نفسه. بعد سقوط المسرح وتحول المشهد إلى ركام، ما زال هناك من يحاول أن يجمع الغنائم. هناك من يعيش حالة نكران إنساني قيمي، ويستمر في إلقاء الأفراد إلى الهاوية مقابل الحفاظ على كراس تقف على أرجل معطوبة.
بدلا من محاولة إصلاح العطب، ولملمة الجروح، والتكفير عن أخطاء ارتُكبت خلال العقود الماضية، كان الأجدى أن يحاول إنقاذ نفسه والآخرين من هلاك قادم. أن يختار أن يكون أخلاقيا، إنسانيا، منطقيا في قراراته، يسعى إلى إنصاف العدالة الغائبة، ينظر إلى ما بعد أنفه، إلى ما بعد اللحظة، لا أن يواصل العمى في هذا الوقت الضائع المتبقي.
بات واضحا غياب أيّ مشروع إنساني وطني قومي حقوقي واضح. لا مكان آمنا في العالم. ومن الواضح أنه لا قيمة للإنسان، فكلما زاد سعر الأشياء، بخست قيمة الأفراد. هذا العالم يتأرجح على إيقاع خلافاته، كل طرف يريد القضاء على الآخر بشراسة، وكل منشغل بالتدمير، ولا أحد يفكر في الإعمار. الحجر من الممكن إعادة بنائه، لكن من يعيد بناء الإنسان؟
الأمر تعدّى البعد العسكري، فعلى وقع هذا العالم المهووس بالقوة والصفقات، لا اقتصاد مستقرا، لا تحالف دائما، ولا حدود واضحة. العالم كله يعيش على كفّ عفريت، انقلبت الأنظمة، تبدّلت التحالفات، تغيّرت اللغة. بات عدو الأمس صديق اليوم، وصديق اللحظة عدو الساعة القادمة. المصافحات لم تعد تعني ثقة، والتحالفات لم تعد تعني استقرارا. تبين أن هذا العالم كما عرفناه لعقود كان خدعة، كان مؤقتا، هشا. وكل صكوك الغفران التي كانت تباع، كانت مجرد تذاكر للدخول إلى الجحيم. المبادئ مجرد بهرجة بائسة، لا أحد يلتزم بها. كل ما بقي لنا مجرد منظومة مريضة، عالم بملامح رمادية مشوهة، ووحدها الفوضى سيدة اللحظة.
منذ ذلك اليوم، أصبح من الصعب تصديق الخطابات أو الوثوق بأيّ منظومة تدّعي تمثيل الإنسان والدفاع عنه. فأصبح الإنسان بشكل جلي مجرد تفصيل ثانوي في حسابات السلطة.
اختلت الموازين، ولم تعد المواقف تقاس بالقيم، بل بالمصالح المتبدلة، وبقدرة الأطراف على النجاة ولو على حساب الآخرين. صارت الخسارة جماعية، لكن النجاة فردية
والأدهى من كل ذلك، أن المجتمعات بدأت تعتاد هذا الانهيار، تتكيّف معه، وتُطبّع مع مشهد الخراب، وكأن هذا هو الطبيعي الجديد. وما هو أكثر رعبا من الوحشية هو الاعتياد عليها، فلم يعد الصمت عارا، بل صار إستراتيجية.
اختلت الموازين، ولم تعد المواقف تقاس بالقيم، بل بالمصالح المتبدلة، وبقدرة الأطراف على النجاة ولو على حساب الآخرين. صارت الخسارة جماعية، لكن النجاة فردية. وبدلا من أن نبني معا، يتحصن كل فرد داخل خندق خوفه أو مصالحه أو قوميته أو طائفته.
في هذا الزمن المتشظي، تتآكل المعاني الكبرى؛ الوطن لم يعد فكرة تجمع، بل صار خندقا يفرق، والهوية لم تعد انتماء، بل عبء، وحتى القيم الأخلاقية صارت عملة نادرة تُستحضر عند الحاجة فقط، وتُنسى عند أول اختبار.
كان يجب أن يكون خطابنا الإنساني واضحا، بأن الحقوق الإنسانية فوق كل حزب أو طرف أو أيديولوجيا. فقط لأنك ضد طرف ما، وترى فيه أداة رعب كباقي الأدوات المعززة للظلم والفساد، عليك أن تعي وتدرك أن الإنسان بحقوقه الأساسية من حق الحياة والغذاء والمياه النظيفة والإيواء وحرية الحركة، والإيمان، والفكر والرأي، والحق في تحقيق العدالة والحماية، وحق اختيار هويته والاحتفاء بإنسانيته، كل ذلك أمر غير قابل للمساومة أو النقاش. الإنسان، كل الإنسان، يستحق الحياة، والأفراد الذين بلا حول ولا قوة وحدهم من يدفعون ثمن هذه الفوضى العالمية.
لكن، رغم كل هذا الانكشاف المرير، يبقى السؤال مفتوحا: هل ما زال هناك متسع لننهض؟ هل يمكننا أن نعيد صياغة عالم أكثر إنسانية أم أن ما نشهده ليس لحظة تحول، بل نهاية مرحلة بشرية كاملة؟
ربما الإجابة لا يملكها أحد الآن، لكن ما هو مؤكد أن الصمت لم يعد خيارا.