لماذا وجد جيل "الخبز يأكلنا" نفسه في أغنية الشامي

ما فعله عبدالرحمن فواز الشهير بالشامي أنه حول الألم الإنساني إلى قصيدة موسيقية تدمي القلب قبل الأذن.
الخميس 2025/05/01
تفاعل كبير من جمهور الشباب مع الأغنية

في رمضان الماضي برز مسلسل "تحت سابع أرض" كواحد من أبرز الأعمال الدرامية، لكن ما لفت الانتباه أكثر كان أغنية التتر (الشارة) التي حملت عنوان “وين”، من أداء الفنان السوري عبدالرحمن فواز الشهير بـ"الشامي"، والذي شارك في كتابة كلماتها وألحانها، بينما تولى إليان دباس مهمة التوزيع الموسيقي.

قبل عرض المسلسل، أثار اختيار الشامي لغنائه وتأليفه الشارة ضجة واسعة، لكن المفاجأة كانت في التفاعل الكبير من جمهور الشباب مع الأغنية، وهو ما دفعني – رغم انتمائي لجيل “الطرب الجميل” – إلى البحث عن سر هذا الإقبال الغريب!

في البداية، اعترف بأنني لم أستسغ الأغنية، لكن حين رأيت صغاري يرددونها بحماس، ويقفزون على إيقاعها، ويتناقلون كلماتها كأنها شيفرة سرية، شعرت بالفضول! هل امتلك هؤلاء حاسة فنية أرقى من حاستي؟ هل اكتشفوا شيئا خفيا في هذه الأغنية فانبهروا بها؟

من هنا، قررت أن أخوض في تحليلها بأدواتي النقدية، متذكرا المقولة الشهيرة “إن لكل زمان فنّه وجيله”، ولعل الحقيقة التي توصلت إليها هي أن قيمة الأغنية لا تقاس بجمال اللحن أو إتقان التوزيع فقط، بل بقدرتها السحرية على اختراق المشاعر، وتحويل الأحاسيس إلى كلمات تُغنى، فتتحول إلى صدى جماعي يعبر عن روح العصر! هل كانت “وين” مجرد أغنية أم أنها أصبحت ظاهرة ثقافية فهمها الصغار قبل الكبار؟

 كما قلت سابقا لا تقاس قيمة الأغنية بجمال لحنها أو روعة توزيعها فحسب، بل بقدرتها على اختراق القلوب، وتحويل المشاعر إلى كلمات تُغنى، وهذا بالضبط ما فعله عبدالرحمن الشامي حيث حوّل الألم الإنساني إلى قصيدة موسيقية تدمي القلب قبل الأذن، إن العنوان وحده كفيل بإثارة التساؤل “تأكلني الضباع تعلكني جلد أحسن من ناس كانتلي العمر”. كيف وصل الإنسان إلى مرحلة يُفضّل فيها افتراس الضباع على خيانة البشر؟ هذه العبارة ليست مجرد استعارة شعرية، بل هي صرخة جيل يعيش في زمن صار فيه “الخبز يأكلنا”، كما يقول الشامي في كلماته، لو أردنا تفكيك الأغنية سطرا سطرا على طريقة نقاد الأدب، لوجدنا أنها تُقدّم ثلاثة مستويات من الألم:

الجمهور المستهدف هم جيل الانهيار، الشباب العربي، الذي عاش الحروب والخيبات الاقتصادية، والذي رأى في الأغنية مرآة له

الألم الجسدي في عبارة “عجبالي كتف حامل ولا قلت آخ بمرة”، إحساس بالانكسار الداخلي رغم الصمود الظاهري، أما “لاشتريت بعت نفسي كل غبي غدر نفسي” فهنا نجد مفارقة مؤلمة، حيث يبيع الإنسان نفسه ليشتري ذلّا جديدا، في حين جاء المستوى الثاني محملا بالألم الاجتماعي في قوله “تأكلني الضباع أحسن من ناس كانتلي العمر”، هنا يتحوّل الخوف من الوحوش إلى حنين لهم، لأنها على الأقل لا تخون! وفي قوله “كل يلي كانوا حولي نسيوا العشرة وأكلوا سنينا” نرى صورة قاسية للغدر، حيث يُستبدل الحب بالافتراس.

أما آخر مستويات الألم، فهو الألم الوجودي ففي عبارة “طال الزمن بالأرض بس راجع لقبرك تراب” تذكير مأساوي بأن النهاية واحدة، لكن المسيرة مليئة بالخيبة، وأيضا “منركض لناكل خبز بس الخبز ياكل فينا” مفارقة عبثية حيث يصير الطعام مفترسا، والإنسان ضحية لنضاله اليومي، هذه الطبقات تجعل الأغنية أقرب إلى “مانيفستو المهمشين”، الذين يعيشون تحت سابع أرض، بعيدا عن الأضواء.

أما لو مضينا إلى موسيقى التتر فسوف نجدها ذات إيقاع استطاع أن يعكس صرخة الروح، فالأغنية ليست مجرد كلمات، بل هي “أداء درامي” بحد ذاته، كذلك فإن التوزيع الموسيقي لإليان دباس عكس حالة التيه والوجع، ومما يسترعي الأذن عند استماعك للشامي ذلك “التسريع والتباطؤ” في الإيقاع الذي يحاكي تقلبات المشاعر بين اليأس والغضب، ليكون الصمت المفاجئ قبل عبارة “تأكلني الضباع” كأنه وقفة أمام الموت، ويعتبر العزف على “الوتريات” تذكيرا بألحان المواويل القديمة، وكأن الشامي يربط ألم الماضي بحاضر لم يتغير، حتى صوت الشامي نفسه جاء “مبحوحا، متعبا”، كأنه يصرخ من تحت الأنقاض.

وبعد كل ما جاء آنفا، يبدو السؤال التالي جديرا بالاهتمام، لماذا صارت “وين” ظاهرة؟ يبدو أن هناك أسبابا جعلت الأغنية تنتشر كالنار في الهشيم: منها الجرأة في قول ما لا يقال، في زمن يحاول الكثيرون تزيين الواقع، تأتي الأغنية لتمزق القناع وتقول “الناس أخطر من الضباع”، ولا ننسى أن الجمهور المستهدف هم جيل الانهيار، الشباب العربي، الذي عاش الحروب والخيبات الاقتصادية، والذي رأى في الأغنية مرآة له، ففي عبارة “الخبز ياكل فينا” تلخيص لمأساة جيل يعمل ليعيش، ثم يكتشف أن الحياة تأكله! ويكفي لهذه الأغنية ما تمتعت به مما يمكن أن ندعوه “الانزياح عن النمطية”، فهذه الأغنية ترفض أن تكون”بوبا سطحيا” أو “رابا عدوانيا”، بل تختار مساحة بينهما، حيث الألم يغنى بهدوء.

ولا بد لنا دوما بعد هذا التتر المفعم بالألم والأوجاع أن نتساءل اليوم: هل نستحق أن نكون أفضل من الضباع؟

إن الأغنية في النهاية ليست مجرد كلام، بل تحد للمستمع، هل ما زال بإمكاننا أن نكون بشرا أم أننا صرنا “أدوات خيانة” كما تصفنا الكلمات؟ يبدو أن السؤال الأهم: إذا صرنا نفضل الضباع على البشر، فهل هُزمنا أم هزمنا؟ ربما تكون الإجابة في كلمات الشامي نفسه “طاب السكن بالأرض ومننسى الحساب”، فالإنسان قد يعيش، لكنه نادرا ما ينسى.

إنّ ما سعيت له من وراء هذا المقال ليس مجرد تحليل لأغنية، ففي ديوان الفحول الأوائل ما أطرب له أكثر، ولكنها دعوة إلى إعادة النظر في “إنسانيتنا” قبل أن تصير الضباع أرقّ منا!

14