مسلسل "البستاني" يكرس تميز الدراما الإسبانية بالأفكار غير النمطية

تأتي دراما "البستاني" لتسلط الضوء على مدى تأثير فقدان المشاعر على الإنسان وكيف يمكن أن تحوله إلى مجرم يسهل تطويعه من الآخرين، عبر حكاية طفل صنعت منه أمه قاتلا محترفا لمجرد فقدانه القدرة على الشعور واستشعار الألم والفعل السيء من الجيد، لتكون هذه الفكرة الجديدة على عالم الدراما بطلة المسلسل الرئيسية.
تمثل الفكرة غير النمطية، البطل الرئيسي لمسلسل البستاني”EL jardinero” الذي انتهى عرضه قبل أيام على شبكة نتفليكس، ما يجعله حلقة جديدة في سلسلة الأفكار الثورية التي تميزت بها الدراما الإسبانية في العقد الأخير، ومنحتها تفوقا نادرا في نسب المشاهدة على غيرها من الدراما الغربية، بما فيها الأميركية التي يعتبرها الكثير من النقاد المرجع التاريخي للدراما في العالم.
وإذا كان النجاح الساحق وغير المتوقع لمسلسل “قصر من ورق”La Casa de Papel” يمثل ذروة التفوق للأفكار غير النمطية التي قامت عليها النهضة الدرامية الإسبانية، يصعب التغافل عن القيمة الفنية لأعمال أخرى تركت انطباعا مؤثرا على مشاهدي شبكات المشاهدة المدفوعة، وحجزت مكانة مميزة لأي عمل درامي إسباني يعرض عليها.
يمكن رصد مسلسلات ركزت على الأفكار المبتكرة أو التناول المعتمد على استعراض تراث الثقافة والأدب اللاتيني، المختلف في نكهته ونظرته لقضايا البشرية عن الثقافة الغربية الكلاسيكية، من تلك الأعمال مسلسل “وزارة الزمن” ومسلسل “المغرب.. الحب في زمن الحرب” ومسلسل “فتيات الهاتف.”
في هذا السياق، يمكن التعامل مع مسلسل “البستاني” باعتباره امتدادا لتلك السلسلة، حيث يعتمد الكاتب ميغيل سايث كارال، وهو واحد من ألمع كتاب السيناريو في إسبانيا حاليا، على فكرة غير تقليدية يجعل منها البطل الحقيقي والجاذب الأكبر في العمل، الذي لا يقدم نجوما بارزين بين أبطاله، سوى النجمة المكسيكية سيسيليا سواريز التي اشتهرت عالميًا بدورها في مسلسل “منزل الزهور.”
ويشتهر كارال بأسلوبه الذي يدمج بين الدراما الإنسانية والتشويق البوليسي، وقدم في أعماله السابقة نماذج لشخصيات تعاني من مشاكل نفسية وصراعات داخلية، مثلما فعل في أشهر أعماله “الأمير” الذي كان من أعلى المسلسلات مشاهدة في إسبانيا بجزئيه عندما عرضا في عامي 2014 و2015، ونجح كارال في تصوير الصراع الداخلي الذي عانى منه بطل المسلسل ضابط المخابرات الإسبانية خافيير موريّا بين أداء واجبه الأمني ومشاعره، بعد أن وقع في حب فاطمة، أخت الإرهابي المشتبه به.
يعتمد العمل على فكرة مبتكرة في الدراما التلفزيونية والسينمائية، ما ساعد على استقبال النقاد له بشكل جيد، رغم بعض الملاحظات العميقة على السيناريو، حيث تجنب الكثيرون انتقاده مع اعترافهم أنه كان يمكن أن يكون أفضل.
متلازمة الحب والكراهية
تدور الأحداث حول إلمر وهو شاب مراهق تعرض لحادث سيارة في صغره، أثر على مناطق الإحساس في مخه، ما جعله فاقدا للمشاعر، فهو لا يشعر بالحب أو الكراهية، بالفرح أو الضيق، ولا يشعر حتى بالذنب، يقيم مع والدته تشينا خورادو في بستان جميل في قرية إسبانية، ويديران البستان ويقوم الشاب بالزراعة بنفسه.
يكشف العمل المكون من 6 حلقات، بطريقة الفلاش باك، أن الأم كانت في شبابها فنانة تعيش في المكسيك مع طفلها، وتقع في غرام منتج أعمالها، وتكتشف خيانته، فتغضب وتتشاجر معه قبل أن تقرر الهروب منه، تصطحب طفلها وتتسبب في حادث عندما كانت تقود سيارتها، ما أفقدها جزءا من ساقها، وخلف لابنها إصابة في رأسه.
تستغل الأم انعدام الشعور عنده لتحوله إلى قاتل مأجور، وتدير هي مؤسسة صغيرة للقتل الاحترافي، وتلتقي بالزبائن الأثرياء الذين يحددون لها الشخص المرغوب في التخلص منه، ثم تكلف ابنها بالمهمة وينفذها باستخدام محلول ابتكره من خلط المبيدات الزراعية، يقوم بحقنه في رقبة الضحية ليلقى حتفه على الفور.
بعد ذلك يعود الشاب بالجثة إلى البستان ويقوم بدفنها في التربة الزراعية حتى يختفي أثرها، وتتلقى أمه الأجر وتدخره كما يوضح المسلسل، وتتمكن من تدبير المبلغ اللازم لإعادة شراء منزل والدتها في المكسيك الذي تم بيعه بعد هروبها مع ابنها إلى إسبانيا.
تبلغ الأحداث ذروتها حين تتلقى الأم طلبا من سيدة ثرية لقتل فيوليتا وهي فتاة شابة، كانت حبيبة ابنها الشاب، وتعتقد أنها مسؤولة عن مقتله، وتكلف الأم ابنها بالمهمة كالعادة، لكن أثناء مراقبته للفتاة يقع في غرامها وتبادله هي مشاعر الحب لتتعقد الأمور بينه وبين أمه، وبين أمه والسيدة الثرية.
خلال ذلك يتعرض إلمر لنوبات إغماء، ويذهب مع أمه للطبيب الذي يخبرهما بأنه يعاني من ورم سرطاني في المخ، أعاد له الأحاسيس البشرية التي كان يفتقدها منذ تعرضه للحادث، لكن الورم في المقابل يمكن أن يقضي على حياة إلمر في وقت وجيز.
مشاعر رومانسية مفقودة
شاب مراهق تعرض لحادث أثر على مناطق الإحساس في مخه فتستغل أمه ذلك لتحوله إلى قاتل مأجور
يدخل الشاب في مواجهة مع والدته، بعدما رفض تناول الدواء أو إجراء جراحة لاستئصال الورم، حتى لا يفقد مشاعره الرومانسية تجاه فيوليتا التي يشعر بها لأول مرة منذ طفولته، وتصر أمه على أن يجري الجراحة حتى لا تفقده وهو كل أسرتها.
تتواصل الأحداث ليقرر إلمر في الحلقة الأخيرة قتل السيدة الثرية حتى يتخلص من تهديداتها المستمرة بقتل حبيبته، وعندما تعرف فيوليتا بما فعله تقرر الهرب بعد أن تترك له رسالة أنها لا تريد الاستمرار في علاقتها به لأنه قاتل.
كادت تشينا تستعين بصديق مكسيكي قديم، ليتخلص من فيوليتا بعدما فشلت في إقناع ابنها بتنفيذ المهمة، خصوصا أنها تخشى من أن تنفذ الزبونة الثرية تهديدها لها بأنها ستبلغ الشرطة بكل جرائمها إذا لم تقتل الفتاة.
ويستعرض المسلسل شخصيتي محققين رجل وسيدة يتابعان التحقيق في قضايا القتل، وينجحان في الربط بين كل قضايا القتل المجهولة وتتجه شكوكهما إلى إلمر وأمه، بل أن المحققة تكتشف بالفعل أنهما يدفنان الجثث تحت النباتات المزروعة في بستانهما، وعندما يقرران الإغارة على البستان تكون الأم قد تخلصت من الجثث مستعينة بصديقها القديم.
وبعد أن يذهب الصديق لمطاردة فيوليتا وقتلها تنجح في النيل منه قبل أن ينال منها، ولا تجد سوى إلمر لتستغيث به، فيسرع الشاب لنجدتها، ويساعدها في التخلص من الجثة بطريقة لا تثير شكوك الشرطة، وتصر رغم ذلك على الذهاب للعيش في مكان بعيد.
يعود إلمر إلى أمه وبينما يتجادل معها عما فعلته بحبيبته، يشعر بدوار، وتستغل الأم اللحظة لتحقنه بمادة مخدرة وتصطحبه للمستشفى، حيث توافق بدلا منه على إجراء الجراحة التي تنجح ويعود إلمر إلى حياته مجددا معافا، لكن من دون مشاعر.
نهاية مفتوحة
في المشهد الأخير تظهر فيوليتا في البستان لتلقي التحية على إلمر الذي يسألها عن سبب قدومها فترد عليه ببساطة أنها تريد منه أن يقتل شخصا ما، في نهاية مفتوحة تسمح بإنتاج أجزاء جديدة من المسلسل.
ورغم نجاح العمل بمقاييس المشاهدة وحداثة الفكرة التي اعتمد عليها، إلا أنه حفل على غير عادة أعمال كارال السابقة بالعديد من الملاحظات التي كان يمكن بتفاديها أن يسجل المسلسل ضمن أفضل الأعمال في تاريخ الدراما الإسبانية.
من أبرز الملاحظات إغفال تحول الأم إلى مجرمة وتحويل ابنها الوحيد الى قاتل مأجور، صحيح أن المؤلف كشف أن الموضوع بدأ مع ظهور المنتج القديم في حياة الأم من جديد، ومحاولته ابتزازها ومضايقتها، ما دفع الابن لقتله لتخليص أمه منه، ثم تعاون الشاب والأم في دفنه في البستان.
وتغافل المؤلف عن حقيقة بسيطة أن القتل العارض الناتج عن ظروف استثنائية لا يترتب عليه بالضرورة تحول الاثنين إلى مجرمين محترفين، وإذا سلمنا بذلك فهو سلوك يخص الشاب فقط، فكيف لمعت في ذهن الأم فكرة تحويل إدارة ابنها ليكون قاتلا مأجورا مع كل ما في ذلك من احتمالات تعريضه للخطر؟
ولم يوضح كارال سبب رغبة المحققة في إقامة علاقة مع زميلها الأكبر سنا، فهي كما يجسدها المسلسل سيدة خمسينية غير متزوجة، وزميلها المحقق أكبر سنا ومتزوجا منذ زمن طويل ولم يسبق له خيانة زوجته، ولا يتمتع بجاذبية في الشكل أو المضمون للدرجة التي تجعل زميلته تريده بأي مقابل.
وإذا كان الهدف من تلك الفكرة إظهار العواقب الأخلاقية، فكان يجب على المؤلف بيان أي عاقبة أخلاقية لما فعله المحققان، لكن ذلك لم يحدث، إلا إذا اعتبرنا أن فشلهما في اكتشاف الجثث، ومن ثم إدانة الأم وابنها وتعرضهما للتأنيب من رئيس وحدة التحقيقات هي العاقبة على فعل الخيانة الزوجية.
ومن التفاصيل اللافتة في المسلسل عدم تأثر الأحداث بتناوب مخرجين اقتسما إدارة العمل بينهما، هما ميكيل رويدا ورافا مونتيسينوس، لكن لم يشعر المشاهدون بوجود تباين بين الحلقات الثلاثة الأولى والحلقات الثلاثة الأخيرة، ولم يكن هناك اختلاف ملحوظ في التفاصيل بما فيها اعتماد المخرجين على فكرة “الفلاش باك” و”الفلاش فورورد” كإجراء إخراجي للخروج من الملل في بعض الحلقات.