كم شرق أوسط جديد سيُعلَن عنه بعد

في عام 1916، وقّع البريطانيون والفرنسيون اتفاقية سايكس-بيكو لتقاسم تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية) بعد سقوطها. لم يُؤخذ برأي الشعوب، ولم يُراعَ التنوع القومي والديني، فكانت النتيجة دولًا بحدود مصطنعة، وانقسامات اجتماعية زرعت الشك بدل الثقة، والتنافر بدل الانتماء. المشكلة لم تكن فقط في ترسيم الحدود، بل في صناعة دول ذات بنية هشة، تُركت لتكون عُرضة للانفجار في كل حين.
سايكس–بيكو لم تكن اتفاقًا عابرًا، بل عقلية إدارة للمنطقة، ما زالت قائمة: فصل الشعوب، تقسيم الموارد، تفتيت الهويات، وتغليب الولاءات الطائفية على الوطنية.
سايكس–بيكو ما زالت في جوهرها قائمة حتى يومنا هذا، وأجيال عديدة دفعت ثمنها، ولم ينته الحساب بعد. المنطقة ستدفع ثمنا باهظا في المستقبل القريب.
بالنسبة إلى صقور العالم لم تعد الأدوات والطرق الناعمة تلبي التطلعات، والتغيير بات اليوم دمويا، شرسا، قويا ومؤلما.
◄ ما يحدث في المنطقة هو إعادة توزيع للأدوار والمصالح. الشركات الغربية تربح من إعادة الإعمار حتى قبل أن تنتهي مرحلة التدمير
هوية شعوب المنطقة قامت على حبر سايكس–بيكو.
كل قرن، أو أقرب.. يُعاد ترسيم الخرائط، وتُفرض تحوّلات ديموغرافية وجغرافية وجيوسياسية، بالدم بدل الحبر، وبحسب المصالح وعقود الشركات، لا بحرية الشعوب ولا احترام خصوصية البلاد. على أن تبقى الشروخ والصراعات حيّة، ما دامت الفوضى تصبّ في صالح من يعرف كيف يديرها.
في هذا الركن المضطرب من العالم، لا شيء ثابت سوى الفوضى. وما يحدث في الشرق الأوسط يتجلى في أزمة بلا مخرج سهل، والاستقرار قد يكون بعيدًا جدًا في ظل غياب أفق قريب للحل.
تشاؤم أم سوداوية؟ ربما واقعية. فأزمات المنطقة ليست عابرة، بل متجذرة. والواقعية ضرورية لفهم كيف تتحرك الأحداث، حتى يدرك المرء ما الذي يمكن أن يتغير فعلًا، وإلى أي هاوية تتجه بنا المراكب؟
الشرق الأوسط لا يُترك للفوضى بل يُقاد نحو فوضى لا تصل إلى الانهيار التام. لا أحد يريد حسم الصراعات، لأن الصراع هو سبب للبقاء وللنفوذ.
الفوضى، ليست عدوة للغرب، بل صديقته الصاخبة، التي تعطيه أسباب الوجود والبقاء والسيطرة. فالغرب لا يصنع الفوضى ليحكم، بل يصنع الفوضى ليراقبها، يفاوض عليها، ويبرر وجوده بها.
في السنوات الأخيرة، عاشت المنطقة سلسلة من الأزمات التي تجاوزت حدود الصراع التقليدي. سوريا تحولت إلى ساحة حرب عالمية مصغّرة، اليمن يعيش كارثة إنسانية غير مسبوقة. العراق تائه بين النفوذ الإيراني والمصالح الأميركية. لبنان ينهار اقتصاديًا بعد انهيار حدوده وسيادته وحق تقرير مصيره. فلسطين تُضرب في غزة والضفة بلا هوادة، والعالم يكتفي “بمراقبة” المأساة.
المُثير أن هذه الدول، رغم كل هذا الانهيار، لا تُترك لتسقط نهائيًا. ولا يبدو أن هناك أي طرف يريد الحسم.. بل يتم الإبقاء عليها كـ”هياكل دول” عاجزة، تدير أزماتها اليومية بلا أفق، وتُستخدم كورقة تفاوض دائمة على طاولات الكبار.
◄ جيل كامل من الأطفال ينشأ اليوم على وقع القصف والخراب، بلا تعليم حقيقي، بلا أمان، وبلا أفق.. المواطن محاصر لا يملك أدوات التغيير، ولا حتى القدرة على الهروب
ترك الشرق الأوسط للفوضى ليس عبثًا، بل في ذلك مصلحة لمن يدير اللعبة. فلا فائدة من دعم الحكومة اللبنانية ورئيسها في إعادة لملمة أشلاء “سويسرا الشرق” وإعادة بث الحياة والاقتصاد والثقافة بها.
لا طائلة من استبدال نظام الأسد بآخر عادل، قوي، حر، مدني. ولا جدوى من إيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية، والبدء بتنفيذ خطوات واضحة لحلول عادلة إنسانية تحفظ حق الأفراد في الحياة الكريمة اليسيرة.
كل الملفات التي نُبشت قبورها خلال العامين الماضيين، لم يتم التوصل إلى أي حل منطقي واضح لأي منها. والمغزى من ذلك أن تبقى ملفات عالقة معقدة.. من غزة والضفة إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن، وصولا إلى إيران والعلاقة الغربية المريبة، علاقة الحب والعداوة السامّة بين طهران وواشنطن، فهي مثال آخر على الفوضى المدارة بعناية.
من جهة، تُقدَّم إيران كعدو معلن للغرب، ومن جهة أخرى، تُركت لسنوات طويلة تتمدّد في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ثم يتم الانقضاض على “أذرعها” لتدمير الأطراف العربية، وتترك طهران خارج معادلة المواجهة المباشرة. على الأقل حتى الآن.
هذه العلاقة، القائمة على التصعيد الإعلامي والتفاوض السري، تؤكد أن الصراعات ليست دائمًا ما تبدو عليه، وأن العدو في الخطاب قد يكون شريكًا وراء الكواليس، حتى وإن كان بطريقة غير مباشرة.
حين تنظر لتاريخ العلاقة بين الغرب وإيران، تجد أن الأول لا يسعى لإسقاط النظام الإيراني، بل إلى احتوائه، وتوظيفه كورقة ضغط. فاللعبة أوسع من شعارات العداء، إنها لعبة مصالح. لا أعداء دائمين ولا حلفاء دائمين، فقط صفقات مؤقتة.
منذ غزو العراق عام 2003، طُرح مصطلح “الفوضى الخلّاقة” كمفهوم لإعادة تشكيل المنطقة. واليوم، بعد عقدين، نرى تجلياته واضحة: فوضى تُدار لا تُحسم، صراعات تُغذى لا تُطفأ، وأزمات تُستثمر لا تُحل.
في هذا السياق، لا يعود غريبًا أن تُضرب البنية التحتية لدول بالكاد تبدأ في توازنها، أو تُفرض عليها عقوبات اقتصادية خانقة، أو أن يُعاد تشكيل الخريطة الديمغرافية لبعض المناطق بالقوة، لتُصبح “الدولة الفاشلة” واقعًا مقبولًا لا يُستنكر.
◄ كل قرن، أو أقرب.. يُعاد ترسيم الخرائط، وتُفرض تحوّلات ديموغرافية وجغرافية وجيوسياسية، بالدم بدل الحبر، وبحسب المصالح وعقود الشركات، لا بحرية الشعوب ولا احترام خصوصية البلاد
وسط هذه الفوضى، يبقى المواطن العادي هو الضحية، والأكثر نسيانًا. المواطن العربي هو الخاسر الوحيد.. تآكلت الطبقة الوسطى، ارتفعت نسب البطالة، زاد الفقر، انهارت أنظمة التعليم والصحة وتحوّلت الأحلام الفردية إلى كوابيس يومية.
جيل كامل من الأطفال ينشأ اليوم على وقع القصف والخراب، بلا تعليم حقيقي، بلا أمان، وبلا أفق.. المواطن محاصر لا يملك أدوات التغيير، ولا حتى القدرة على الهروب.
والمشكلة الأكبر أن صوته نادرًا ما يُسمع، لأن صراع الكبار لا ينتج إلا ضجيجًا لا يُتيح الاستماع لهموم الصغار.
ما يحدث في المنطقة هو إعادة توزيع للأدوار والمصالح. الشركات الغربية تربح من إعادة الإعمار حتى قبل أن تنتهي مرحلة التدمير. روسيا تضمن موطئ قدم في المتوسط، والصين تبحث عن نفوذ اقتصادي عبر “الحزام والطريق”، وإسرائيل تواصل توسعها مدعومة بغضّ النظر الدولي ورسم واقع المنطقة بما تشاء ريشتها.
أما الشعوب، فتُستخدم فقط كوقود في الحروب، ومادة خام في تقارير حقوق الإنسان الموسمية.
ربما يبدو هذا الطرح سوداويًا، وربما هو واقعي أكثر مما يجب. لكن السؤال الكبير يبقى: هل يمكن لهذه المنطقة أن تنهض من جديد؟ هل تمتلك شعوبها القدرة على كسر هذا القيد، وصناعة مستقبلها؟ وهل يمكن أن يتحوّل الشرق الأوسط يومًا من ساحة صراع، إلى فضاء للتكامل والازدهار؟ وكم شرق أوسط جديد سيُعلَن عنه بعد؟
الكثير يا صديقي، الكثير.. فالحدود يُعاد ترسيمها مرارًا. و”الثابت الوحيد أن كل شيء قابل للتغيير مع مرور الزمن.”