القطيعة بين الشباب والأحزاب تعرقل خيارات مصر المستقبلية

الحكومة المصرية تواجه بانتقادات حادة طوال الوقت لأنها اعتادت الترويج للجمهورية الجديدة من دون التفكير في تغيير علاقتها مع الشباب أو التعويل عليهم رغم أن 60 في المئة من سكان مصر شباب، وتركت الأمر لأحزاب منغلقة على ذاتها، وترى قياداتها بأن هذه الكيانات ملك لها.
القاهرة - أظهر انخفاض عدد الشباب المنضمين إلى الأحزاب في مصر إلى أيّ درجة أخفقت الحكومة والكيانات الحزبية المؤيدة والمعارضة لها في استمالة الفئات الشبابية وإقناعها بأن هناك جدوى وأملا من انضمامهم وإشراكهم في الحياة السياسية باعتبارهم الشريحة الأهم التي يعول عليها الرئيس عبدالفتاح السيسي لبناء جمهورية جديدة بأساس راسخ.
وأصبح الشباب المصري محور المنافسة بين الأحزاب المتناغمة مع الحكومة والمعارضة لها، ويظهر ذلك في تليين الخطاب السياسي الموجه إلى الفئات الشبابية مؤخرا، بتدشين الحركة المدنية المعارضة أمانة خاصة بالشباب لجذبهم إليها، واتجاه كيانات حزبية موالية لفتح قنوات اتصال معهم، كونهم يمثلون قوة لا يُستهان بها في أيّ استحقاق انتخابي.
وأعلن الأمين العام لحزب الجبهة الوطنية السيد القصير، وهو أحد أكبر الأحزاب المصرية القريبة من النظام، عن سعي حزبه لجذب الشباب بطرق مختلفة، منها إعادة تفعيل دور الاتحادات الطلابية في الجامعات وتنشيط دور المحليات وتعزيز حضور الفئات الشبابية في عضوية الحزب، كجزء من تفعيل الحياة الحزبية داخل البلاد وعدم استمرارها على نفس الحال.
وكشف القصير عن رقم صادم عندما قال إن مصر بها أكثر من مئة حزب ولا يتجاوز عدد المشاركين من الشباب، أو غيرهم، أكثر من مليون ونصف مليون شخص، من أصل 70 مليون مواطن تقريبا مدرجين ضمن قائمة من يحق لهم التصويت في الانتخابات، بما يعكس حالة القطيعة شبه الكاملة بين الشباب والأحزاب بغض النظر عن انتماءاتها.
ويفسر ذلك، أسباب تعرض الحكومة المصرية لانتقادات حادة طوال الوقت لأنها اعتادت الترويج للجمهورية الجديدة من دون التفكير في تغيير علاقتها مع الشباب أو التعويل عليهم رغم أن 60 في المئة من سكان مصر شباب، كما أن الرئيس السيسي يسعى إلى أن تكون هذه الفئة حزبه السياسي الأكبر الذي يعتمد عليه كظهير شعبي في مواجهة التحديات التي تواجه الدولة.
وترى دوائر سياسية في القاهرة أن عزوف الشباب والأحزاب انعكاس لجفاء في العلاقة بين الشباب والحكومة، وهذا أكبر تحد يواجه النظام الحاكم في سبيل تجييش الشارع خلفه وتكريس تماسك الجبهة الداخلية، لكن العزوف أو القطيعة نتيجة طبيعية لانغلاق المجال السياسي وتراجع الحريات وشعور شريحة كبيرة من الشباب باليأس والإحباط من الواقع والمستقبل.
وهناك طرق عديدة لاستقطاب الشباب والمهم تهيئة الأجواء أمام الأحزاب على مختلفة توجهاتها للتحرك بأريحية لضم المواطنين من دون قيود أمنية ترهبهم وتبعدهم عن المشاركة السياسية، مع حتمية إصلاح قوانين الأحزاب التي تسهل لهم حرية الانتشار والمنافسة في الانتخابات بعيدا عن هيمنة لغة المال والنفوذ، كي تشعر الفئات الشبابية بأن ثمة أملا في التغيير.
ولم تفرز الحياة السياسية في مصر أحزابا قوية تستطيع إغراء الشباب بالانضمام إليها، في ظل وجود ثقافة سائدة بين قيادات أغلب الأحزاب بأن تلك الكيانات أشبه بملكية خاصة تحقق مصالحها الذاتية، بالتوازي مع تنامي الشعور بوجود أبعاد خارجية تتمثل في سيطرة أجهزة أمنية على توجهات تلك الأحزاب بما جعلها غير قادرة على تطوير قدراتها السياسية.
وجزء من المشكلة أن الحكومات المتعاقبة تعاملت مع قطيعة الشباب للأحزاب والحياة السياسية عموما، بنظرة ضيقة تظهر ملامحها في تبني مجموعة من الشباب لديها مواصفات بعينها وتقوم بتصعيدها لتكون حاضرة في المشهد ومنافسة لكيانات حزبية، وبدت الفئات الشبابية الموجودة سياسيا مجهزة مسبقا، كما الحال مع تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين.
ونجحت التنسيقية نسبيا في تقديم صورة مغايرة عن العمل السياسي، وحرّكت المياه الراكدة في الحياة الحزبية كونها تضم في عضويتها شبابا يتعارضون في الرؤى والتوجهات، لكن لم تنجح في إقناع غالبية الشباب بأن لهم ممثلين يتحدثون بلسانهم أو يقنعون غيرهم بأن الفرصة أمامهم مواتية للمشاركة في الحياة الحزبية بعيدا عن الاستسلام لهيمنة الصوت الواحد.
وترفض شريحة معتبرة من الشباب المصري أن تحمل عضوية أحزاب يرونها “كرتونية” وبرامجها تغيب عن أبجديات العمل السياسي، لأن كل كيان يعتمد جملة من اللوائح تحدد تربية الكادر وفق رؤية الحزب. ولأن الغالبية منها تدور في فلك الحكومة فإن ذلك كفيل بوصول العلاقة حد القطيعة لأن الأجيال الشبابية الصاعدة بطبيعتها متمردة على كل ما يرتبط بالواقع.
وترتب على تلك الوضعية أن فقدت الأحزاب المصرية الكثير من قواعدها بعد أن انعكس ضعف الأداء فيها على تعاطي عموم المصريين معها، وخاصة الشباب منهم، لأنهم يرونها مجرد أدوات انتخابية سرعان ما يخفت صوتها وينتهي حضورها بانتهاء الانتخابات، وما يتم البحث عنه من استمالة شريحة منهم حاليا جزء من لعبة انتخابية يرفض الشباب المشاركة فيها.
ويقول مراقبون إن جزءا أصيلا من قطيعة الشباب للأحزاب مرتبط بتحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى كيانات حزبية تتخطى نفوذ القوى السياسية على الساحة، وصارت فئة الشباب لا تحتاج إلى حزب تنضم إليه ولديها أحزاب افتراضية يُمكنها المعارضة وتشكيل الرأي العام والضغط على الحكومة بعيدا عن تعقيدات الأحزاب الكلاسيكية في التعبير عن الرأي.
◙ الحياة السياسية في مصر لم تنتج أحزابا قوية تستطيع جذب الشباب في ظل ثقافة سائدة تعتبر الكيانات الحزبية أشبه بملكية خاصة
ويعتقد هؤلاء المراقبون أن استمرار التعاطي الحكومي والحزبي مع تمكين الشباب كنوع من متطلبات الديكور السياسي سيظل أكبر معضلة أمام بناء جمهورية جديدة تقوم على أكتاف الشريحة الشبابية التي لديها من الطاقات والأفكار والطموحات ما يكفي لإنهاء أزمات مصر، والإصرار على بناء أجيال تفتقد للوعي السياسي قد يجلب ارتدادات سلبية على الاستقرار الداخلي.
وأكد المحلل السياسي جمال أسعد أن جمود العلاقة بين الشباب والأحزاب نتيجة منطقية لشكل الحياة السياسية، وإقناع تلك الفئة بوجود نوايا للتغيير يبدأ من تمكينها والإيمان بقدراتها وتصعيد الكفاءات منها لتولي مناصب قيادية، بعيدا عن اقتصار الحضور في المشهد على أهل الثقة وأصحاب المال دون انعكاس ذلك على الواقع السياسي.
وأضاف لـ”العرب” أنه من الصعب تأسيس جمهورية عصرية بأجيال ليس لديها وعي سياسي، ومن الخطأ استمرار تلك الوضعية بتحول الكثير من الأحزاب إلى كيانات لشخصيات بعينها دون النظر إلى كيفية استقطاب الشريحة الأكبر التي تمثل أيقونة التغيير والتحديث في المجتمع، وهذا لن يتحقق دون توافر أجواء عامة إيجابية وتتعامل الحكومة على أن تلك ميزة كبرى.
ولدى الحكومة رؤية منطقية لأنصارها في مسألة إبعاد الشباب عن الحياة الحزبية المنفتحة، بأن مصر عانت من تقلبات أمنية وسياسية استمرت لسنوات، قبل وبعد ثورتي 25 يناير 2011 ضد نظام حسني مبارك و30 يونيو 2013 ضد الإخوان، وكان الشباب أكثر الفئات الفاعلة للمطالبة بالتغيير وتحسين الأوضاع السياسية، والتحديات الراهنة لا تسمح بتكرار ذلك.
ويرفض معارضون تلك الحُجة، لأن تكريس دعائم الاستقرار يتطلب احتواء أكبر فئة سكانية، وهي الشباب، إذا أراد النظام تكريس تماسك الجبهة الداخلية في مواجهة التحديات المتصاعدة على الأقل لسدّ أيّ ثغرة ينفذ منها خصوم الوطن، ومن الحكمة التعامل مع القطيعة بين الشباب والأحزاب والعمل السياسي على أنها خطر وليست ميزة، لأن ذلك انعكاس لاحتجاج مكتوم.
وليس من الصعب كسر الحاجز النفسي بين الشباب والسياسة، لكن الأمر يتطلب رغبة وإرادة وتصميما من جانب الحكومة والأحزاب على تشخيص هموم الشباب وتطلعاتهم وإفساح المجال أمامهم للتعبير عنها بحرية، لأن عكس ذلك ينشئ أجيالا تتربى على الولاء ويغيب الوعي لديها بما يعرقل بناء جمهورية جديدة متحضرة بأجيال واعية لمجرد أن المجتمع ليس مؤهلا للحريات.