إلى أي مدى ستستفيد الدراما السورية من سقوط نظام الأسد

كانت الدراما السورية رائدة ضمن محيطها العربي، لكن منذ أن ثار السوريون ضد النظام السياسي في العام 2011 ودخول البلاد حالة حرب، ازدادت رقابة السلطة السياسية على الأعمال الدرامية تحديدا وتمت ملاحقة بعض نجومها، واليوم وبعد تغير المشهد، ينتظر الكثيرون وخاصة العاملون في المجال ما ستؤول إليه الأوضاع.
شكّلت الدراما السورية على مدى عقودٍ علامةً فارقةً في المشهد الفني العربي، حيث تميزت بجرأتها في طرح القضايا الاجتماعية والسياسية، وبقدرتها على عكس الواقع السوري بكل تعقيداته، لكن مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، واجهت هذه الصناعة تحدياتٍ كبيرةً بسبب القمع الأمني، والرقابة المشددة، وتشتت الكفاءات الفنية، وتدمير البنية التحتية للإنتاج.
اليوم، وبعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، يبرز سؤالٌ جوهري: إلى أي مدى ستستفيد الدراما السورية من هذه التغيرات؟ يبدو أن الإجابة على هذا السؤال تستدعي منا تحليل الواقع السابق للدراما تحت حكم النظام، واستشراف الفرص والتحديات التي ستواجهها في المرحلة المقبلة.
في الواقع كانت الدراما السورية قبل سقوط الأسد ترزح تحت قبضة أمنية، إذ كان النظام السوري يفرض رقابةً صارمةً على المحتوى الفني، وكانت الأجهزة الأمنية تتدخل في تفاصيل النصوص، وتفرض تعديلاتٍ تخدم خطاب النظام، ومع ذلك فقد ظهرت بعض الأعمال التي تجرأت على انتقاد الفساد أو التعذيب أو القمع، مثل مسلسل “كسر عضم” الذي عرض عام 2022، إلا أنها واجهت منعا أو وجهت تهديداتٍ لصناعها، كما حدث مع مخرجة العمل السابق رشا شربتجي التي مُنعت من السفر بعد إنتاجه، كما وثّقت في لقاء سابق لها مع قناة العربية.
ونتيجة لذلك، وبسبب القمع وانعدام الأمن، هاجر العديد من نجوم الدراما السورية، مثل فارس الحلو وجمال سليمان إلى دول الجوار أو أوروبا، مما أضعف صناعة الدراما المحلية، وفي شهادة فاضحة للممثل فارس الحلو تأكيد على ما قلناه كشف في مقابلة مع “عربي21” كيف حوّل النظام الدراما إلى “آلة للزعبرة والدجل”، كما أن بعض الفنانين الذين انتقدوا النظام، مثل مكسيم خليل في مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” الذي تناول عائلة الأسد بشكلٍ رمزي، واجهوا تهديداتٍ بالمنع أو الاعتقال.
سقوط النظام فرصةً تاريخيةً للدراما السورية لتستعيد مكانتها في العالم العربي، لكن هذا مرهونٌ بتحقيق انتقالٍ ديمقراطي حقيقي
وقد سعى النظام السوري لاستخدام الدراما لتلميع صورته، كما في المسلسلات التي تروج لـ”صمود سوريا” أمام “المؤامرات الخارجية”، بينما تم منع الأعمال التي تكشف انتهاكاته، مثل “دقيقة صمت” الذي تعرض للحجز بسبب انتقاده للأجهزة الأمنية.
ولا يجب أن ننسى تأثيرات انهيار الأستوديوهات على الدراما حيث دُمّرت مراكز الإنتاج في دمشق وحلب بسبب القصف، كما تحوّل “أستوديو الأهرام” في دمشق إلى ثكنة عسكرية، وهنا يتبادر إلى الأذهان السؤال مجددا: كيف سيؤثر سقوط النظام على الدراما السورية؟
إن سقوط النظام يعني زوال الرقابة الأمنية، مما سيمكن الكتاب والمخرجين من معالجة القضايا المحظورة سابقا بحرية تامة، مثل: جرائم النظام (التعذيب، الاعتقالات التعسفية، مجازر صيدنايا) كما سيعالج قضايا الفساد من قبيل (تهريب الثروات، نهب المال العام).
ولا ننسى الملفات الاجتماعية (النزوح، التطرف، الانقسام المجتمعي)، كلها ستكون ضمن أجندة الدراما السورية.
كما سنرى أعمالًا مثل “الخروج إلى البئر” (الذي يتناول سجن صيدنايا) تظهر دون خوف، أو إنتاج مسلسلاتٍ وثائقيةٍ عن الثورة السورية.
ومن الأمور المرتقبة أيضا مع استعادة الأمن، عودة العديد من الفنانين المغتربين، مما سيعيد الحيوية للدراما السورية، ولعل غياب القيود الأمنية سيشجع الشباب على دخول المجال الفني بجرأة أكبر، إضافة لذلك فإن سقوط النظام قد يفتح الباب أمام استثماراتٍ جديدةٍ في الصناعة السينمائية والتلفزيونية، سواء من جهاتٍ محلية أو دولية، خاصةً أن العالم ما زال إلى اليوم يتابع باهتمامٍ كبيرٍ قصة سقوط أحد أكثر الأنظمة دمويةً في القرن الحادي والعشرين.
ومن الأمور التي ستحظى بها الدراما السورية دون مثيلاتها من الدراما العربية تنوع المحتوى وانزياحه نحو الواقعية، فانتفاء الرقاب، من شأنه أن يجعل الدراما السورية تتحول إلى ساحةٍ للإبداع الحقيقي، حيث ستتناول: أحداث الثورة (مثل مجزرة درعا، حصار الغوطة)، ومعاناة النازحين واللاجئين، إضافة لصراعات ما بعد سقوط النظام (مثل محاكمات رموز النظام، ملف المصالحة)، ومع ذلك فهناك كثير من التحديات التي قد تواجه الدراما بعد السقوط، كالفوضى الأمنية والانتقال الصعب في حال لم يتم تأسيس نظام ديمقراطي مستقر، فقد تستمر الفوضى، مما يعيق إعادة الإعمار الفني، كما أن الصراعات بين الفصائل قد تؤثر على حرية الإنتاج، وقد تحاول قوى جديدة فرض رقابةٍ بأشكالٍ مختلفة، خاصةً إذا سيطرت جماعات متطرفة أو فصائل ترفض النقد الفني.
كما تعتبر التحديات الاقتصادية من أهم التحديات التي قد تواجه الدراما السورية، بلد كسوريا يحتاج إلى سنواتٍ لإعادة بناء بنيته التحتية، وقد لا تكون الدراما أولويةً في ظل الأزمات المعيشية.
إن سقوط نظام الأسد يمثل فرصةً تاريخيةً للدراما السورية لتستعيد مكانتها كرائدةٍ في العالم العربي، لكن هذا مرهونٌ بتحقيق انتقالٍ ديمقراطي حقيقي، وضمان حرية التعبير، ودعم الصناعة الفنية، فإذا تحققت هذه الشروط، فقد نشهد عصرا ذهبيا جديدا للدراما السورية، يعيد إنتاج أعمالٍ بقوة “باب الحارة” و”التغريبة الفلسطينية”، لكن بجرأةٍ أكبر وواقعيةٍ أعمق، أما إذا سادت الفوضى، فقد تظل الدراما أسيرة الصراعات الجديدة، كما حدث في دولٍ عربيةٍ أخرى مرت بثوراتٍ لم تكتمل.