نعبد الماضي.. ونسمّيه مستقبلًا

المخاض الذي يمر به البشر اليوم في العصر الحديث، في ظل تسارع وهول الأحداث والوقائع، وتدمير المجتمعات البشرية بشكل ممنهج.. لن ينتهي، ولن يتوقف، ولن يؤدي إلى ولادة أفضل، إلّا بتحطيم الأصنام الفكرية، القِيَمية، العقائدية، المؤسساتية التعليمية الدينية، والسياسية، الاقتصادية لدى البشر؛ وتفكيكها، وتنقيحها، وتهذيبها، وتشذيبها.
هذا المخاض اليوم مؤلم على الإنسان المعاصر، مشتّت له، مدمّر له، وللأجيال القادمة. يدمّر فكره، وبصيرته، وواقعه.
وإذا لم تتم إعادة برمجة الأفكار والمبادئ والقيم، وفصلها عن الماضي البشري الذي ما زال شبحه يطاردنا، فلن يتحقّق واقع أفضل للبشر أبدًا. بمعنى، المجتمعات البشرية اليوم تقوم على أنقاض الحضارات السابقة بهذيانها وهلوساتها وإيمانياتها وبصيرتها وفكرها وعجزها وأخطائها. في الوقت الذي كان علينا فهمهم، دراستهم، الاحتفاء بمسيرتهم لكن الأهم الاستمرار في رحلة بنائهم، المساهمة في تطوير معرفتهم، وأن نحيا زماننا لا زمانهم.
◄ لا خلاص جماعيا إلا بفردانية نقدية، تُعيد بناء الإنسان، بعيدًا عن أوهام الجماعة وقيود الموروث.
يجب أن نحتفي بحقوق أفضل وحياة إنسانية أرقى، أما هذا الإرث المؤلم الذي تركوه لنا، كان سببًا في شرذمتنا، وجلّ ما فعله البشر، تبنوا ماضيا مفزعا، وأعادوا إنتاج مقاساة ومعاناة بشرية مستمرة، وأعادوا تجسيد أنظمة مهلكة للبشر في العصر الحديث.
نحن نعيش الماضي في المستقبل، وهذا هو الجحيم الحقيقي. نعيش في جسد العصر الحديث، لكن بعقل ما قبل الحداثة. بإيقاع “الترند” و”السوشيال ميديا”، لكن نقاتل باسم قبائل قديمة وأفكار بدائية. نُعاني لأننا نُعيد إنتاج نفس الفوضى القديمة بشكل عصري. في الوقت الذي كان علينا أن نبني عالما بالحكمة والمعرفة.
ولأن المعرفة حكرٌ على النخبة، ولأن ما يُقدَّم للعامة من معرفة هو منتقى ومحدّد، ولأن الفكر البشري تتمّ برمجته وتحديده وتسييره عبر أدوات ومؤسسات تعليمية، دينية، إعلامية، فنية، ترفيهية، وثقافية بطريقة ممنهجة، فهناك مسؤولية أخلاقية على الناس أن يبدؤوا بالبحث عن الحقيقة لا الأوهام. عليهم أن يحطّموا الأصنام، ويتوقفوا عن تقديم القرابين والطاعات لأيّ كان. وإلا، لن تكون هناك ولادة جديدة أفضل للبشر.
هذه اللحظة الحضارية التي نعيشها، ليست لحظة تقدم، بل لحظة إعادة إنتاجٍ لماض مشوّه. وحاضر الشرق الأوسط خير شاهد على هذا، فنحن نعيش في أجساد حديثة، لكن بأرواح وأفكار موروثة من عصور الأسطورة.
حتى ما نعيش في كنفه من أنظمة سياسية أو ثقافية أو فكرية، ما هو إلا إعادة تشكيل ذكي لإرثٍ روحي – أسطوري – سياسي يعود إلى آلاف السنين.
◄ نحن نعيش الماضي في المستقبل، وهذا هو الجحيم الحقيقي. نعيش في جسد العصر الحديث، لكن بعقل ما قبل الحداثة
من الحضارات الآشورية إلى البابلية، من الزرادشتية إلى الفراعنة، من الفرس إلى الإغريق.. كلّها تركت تراكماً معرفيًا وروحيًا وسرديًا، تسلّل إلى ما نعرفه اليوم من أيديولوجيات، وطقوس، وأنظمة حكم وسلطة.
هناك أطراف – تعرف نفسها جيدا – نسجت سرديات ثقافية عقائدية فكرية أخلاقية سياسية بطريقة ذكية وزرعتها بشكل محكم في العصر الحديث، وبنت على إرث الأسطورة الشرقية القديمة مجتمعات كاملة ترزح تحت سيطرتها، ونجحت في تحويل الإنسان إلى تابع، لا فرد حر.
حتى حرية الفرد المعاصر اليوم مشوهة، ويشوبها الضياع والتشتيت ومحاولات الهروب من الواقع.
لكن نحن نريد المزيد من الأحرار المستيقظين من يساعدون في بناء مجتمعات متجذرة بحكمتها ووعيها وإدراكها.
الباحث عن الحقيقة سيفهم، فنحن نعيش اليوم قمة تأثير هذه الأنظمة، لا لأنها أعمق، بل لأنها حديثة الشكل، مرت بقرون من التحسين، وتمّت هندستها لتخترق الوعي، وتعيد برمجة العقول دون مقاومة.
ولهذا نقول: إن لم نكسر الحلقة، ونفكّك الأصنام، ونخرج من هذه المصيدة الرمزية الكبرى، سنظل نعيش في هذيان جماعي، نعبد الماضي، ونسمّيه مستقبلاً.
ولا خلاص جماعيا إلا بفردانية نقدية، تُعيد بناء الإنسان، بعيدًا عن أوهام الجماعة وقيود الموروث.