الإلهاء الاجتماعي يخفف الضغوط السياسية عن الحكومة المصرية

استقطابات شعبية تسهّل مهمة تمرير خطط حكومية متحفظ عليها.
الاثنين 2025/03/17
تعمّق الفجوة بين الشارع والحكومة

القاهرة– لم يسبق للمصريين، في أي مناسبة تتحدث خلالها الحكومة عن إلغاء الدعم أو تقليصه أو تحريك أسعار سلع إستراتيجية، أن تعاملوا مع الأمر بهدوء وتجاهل، بل غالبا ما تكون هناك ردة فعل عنيفة، لكن العكس حدث خلال الأيام الماضية عندما انشغل الناس بقضايا اجتماعية ورياضية بما خفف الضغوط السياسية عن دوائر حكومية، مستفيدة من حالة الإلهاء الاجتماعي الجديدة.

ومن المؤكد أن الحكومة بريئة من الاستقطاب حول قضايا أبعدت المصريين عن صميم أزماتهم المعيشية، لكنها استفادت منها لإعادة ترتيب أوراقها في ملفات حيوية.

ومرت تلميحات رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي عن اقتراب رفع الدعم عن مشتقات البترول دون وقفة شعبية، في ذروة انقسام الشارع الرياضي حول قضية انسحاب النادي الأهلي من مباراة القمة مع غريمه التقليدي نادي الزمالك، في بطولة الدوري المصري، وتطبيق عقوبات انضباطية على الأهلي بخصم ست نقاط من رصيده، واعتباره خاسرا أمام الزمالك، وهو ما دفعه لتصعيد القضية.

سعيد صادق: الإلهاء المجتمعي خطر لأنه يكرس تزييف الوعي
سعيد صادق: الإلهاء المجتمعي خطر لأنه يكرس تزييف الوعي

وبينما يترقب الملايين من مشجعي الكرة ما ستؤول إليه الأزمة، تحركت الحكومة بأريحية في ملف الدعم، ومر نبأ موافقة صندوق النقد الدولي على الشريحة الرابعة من القرض المتفق عليه للقاهرة بلا منغصات سياسية، أو نبش في الشروط الجديدة التي طلبها الصندوق من الحكومة، وهل ستزيد الأعباء على المصريين أم لا.

ورغم تواتر أنباء عن وجود مطالبات من صندوق النقد للقاهرة حول المزيد من تحرير سعر صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية، والتقشف في ملف الدعم لأقصى درجة، بما يضاعف الأعباء المعيشية على المواطنين، لم تشهد مواقع التواصل الاجتماعي نفيرا اعتادت عليه في هذه المواقف، ما جعل الحكومة من أكثر المستفيدين من المعارك الجانبية.

ويمنح ما يوصف بالإلهاء الاجتماعي الحكومة فرصة للتنفيس السياسي ويجعلها تعبر مرحلة حساسة مرتبطة بخطط اقتصادية مثيرة، ولا تتعرض لانتقادات تربك حساباتها أو تدفعها للتراجع أو أن تجد نفسها في موقف دفاعي أمام غضب الناس.

لكن يمكن استشفاف نوع من الخطر السياسي من وراء الإلهاء الاجتماعي، فالشارع لا يكترث أو ينتبه لأي إيجابيات تحدث أو يتم التسويق لها حكوميا، وهو ما حدث أخيرا في إعلان الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (جهاز الإحصاء الحكومي) عن تراجع معدل التضخم، حيث سجل 12.5 في المئة خلال فبراير الماضي مقارنة بـ23.2 في المئة في يناير.

ومع احتفاء الإعلام الرسمي بتراجع معدل التضخم، كمحاولة لتبييض صورة الحكومة وإظهار نجاحها في ترويض الغلاء بنسبة معقولة، لم يتوقف الكثير من المصريين أمام هذا النجاح، حيث انشغل الرأي العام بأحداث مثيرة، ما جعلها تخسر الترويج لحدث مهم في ذروة سعيها لإقناع الشارع بأنها جادة في تحسين الظروف المعيشية.

وقدمت مواقع التواصل الاجتماعي هدايا مجانية للحكومة من خلال شغل الناس بقضايا رفعت الضغوط الشعبية عنها، إلا أن استمرار تلك السياسة يعمق الفجوة بينها وبين الشارع في الأوقات التي تحتاج تجييش الرأي العام خلفها لمواجهة بعض التحديات، ومن الخطأ التعويل على الإلهاء لتمرير رؤى متحفظ عليها.

ppo

وهناك فريق من أنصار الحكومة يعتقد أن انشغال الناس بقضايا هامشية، مثل الرياضة والفن والحوادث الشاذة، فرصة لتخفيف الضغوط خلال توقيتات سياسية حرجة، لكن هذا لا يعني أن الحكومة شريكة في صناعة هذا الجدل، ثم إن هناك خصوما للسلطة يستثمرون في غضب الناس لمضاعفة الضغوط السياسية على السلطة والتشكيك في خططها المستقبلية لتحريض الشارع بشائعات مغلوطة.

وتؤكد بعض الوقائع المثارة على الفضاء الإلكتروني في مصر أنه يمكن بسهولة استقطاب شريحة كبيرة من المواطنين وشغلهم عن أزمات ومتطلبات ضرورية، وقد تتسبب واقعة واحدة في أن تتحول إلى قضية رأي عام خلال ساعات معدودة، ما بين مؤيد ومعارض، وفي ذروة ذلك يختفي الحديث عن تبعات خطط حكومية يمكن أن يقود التركيز عليها إلى مشكلات سياسية وغضب قد يصعب ترويضه.

وأكد أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة سعيد صادق أن الإلهاء المجتمعي خطر لأنه يكرس تزييف الوعي وتجهيل الناس بإبعادهم عن التحديات، وتلك الحالة نتيجة طبيعية لعدم وجود مظاهر لحياة سياسية طبيعية يتفاعل معها المواطنون وينشغلون بها، مستبعدا أن تكون هناك جهات تتعمد ذلك، لكن سياسة الإلهاء معبرة عن انخفاض الوعي إلى الحد الأدنى.

 

ما يوصف بالإلهاء الاجتماعي يمنح الحكومة فرصة للتنفيس السياسي ويجعلها تعبر مرحلة حساسة مرتبطة بخطط اقتصادية، ولا تتعرض لانتقادات تدفعها للتراجع

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أنه من الخطأ رسم الوعي اليومي للمجتمع وفق جدل متكرر بعيد عن واقعه المعيشي، وقمة الخطر أن يحدث ذلك في ذروة تحديات داخلية وخارجية تستدعي ترميم جدار الوعي ليكون الناس أكثر فهما لما يدور حولهم، وهناك مستفيدون من تلك الحالة عندما يصبح الإلهاء أداة سهلة لشغل المواطنين عن واقعهم والتخطيط لمستقبلهم بشكل طبيعي.

وما يلفت الانتباه أن أغلب القضايا الاجتماعية الجدلية التي سحبت البساط من تحت أقدام الملفات السياسية، لا تتداخل فيها أطراف أو مؤسسات رسمية، أي أن الحكومة لم تكن طرفا متهما أو بريئا ما جعلها تسلم من سهام النقد والتجريح والاتهام بالتواطؤ، لكنها استفادت من التحرك بأريحية في ملفات حيوية والإعداد لخطط مستقبلية، وإعلانها بشكل صريح دون أن تصطدم بغضب شعبي.

ويشير معارضون إلى أن انخفاض منسوب الوعي السياسي عند شريحة كبيرة في المجتمع هو السبب الأول وراء سهولة إلهاء الناس وصرفهم عن قضاياهم الحياتية التي تمس معيشتهم أو حقوقهم أو مطالبهم أو الواقع السياسي في بلدهم، وهناك من يرى أن الحكومة شريكة في ذلك لأنها لا تتخذ إجراءات عملية تحيي الحراك السياسي وتفتح المناخ العام وتُشرك الناس في تصوراتها.

وتوجد شريحة قليلة أكثر وعيا وفهما لما يدور في الكواليس، لا تنجذب بسهولة خلف الاستقطاب المجتمعي حول القضايا الهامشية التي تظهر فجأة ودون مقدمات، وتتعامل معها باعتبارها وسيلة للإلهاء عن الواقعين السياسي والاقتصادي كي لا تعيش الحكومة ضغوطا طوال الوقت، لكن تلك الفئة غالبا ما يكون صوتها ضعيفا وغير مؤثر عندما تطالب الناس بالحذر من الغرق في الهوامش.

1