الولايات المتحدة بين أمرين: الشعارات والواقع

يقول المحلل والكاتب جورج لينكوفسكي “يمكن لأيّ سياسة خارجية رشيدة ألا تتجاهل الشرق الأوسط وأثره على بقية العالم،” وهذا نابع من الأهمية الجيوبوليتيكية له. وقد قدم السير هالفورد ماكيندر نظرية من أهم النظريات الجيوبوليتيكية، التي يرى من خلالها أن ثلاثة أرباع الكرة الأرضية تغطيها مياه البحار، واليابسة لا تشغل سوى ربع مساحتها فقط. ويقول إن “الخصائص الطبيعية لمنطقة الشرق الأوسط تكمن في أنه يقع عند ملتقى القارات الكبرى للعالم القديم: آسيا، أفريقيا، وأوروبا، ويطل على البحر الأبيض المتوسط وبحر العرب والخليج العربي والمحيط الهندي. كما يحتوي الشرق الأوسط على العديد من الأنهار، منها نهر النيل ونهر الفرات ونهر دجلة ونهر الأردن. هذا فضلا عن أنه يتحكم في مجموعة من أهم مواقع المرور الدولية، وهي قناة السويس ومضائق البوسفور والدردنيل وباب المندب ومضيق هرمز.” كأن هذه النظرية التي طرحها لينكوفسكي أصبحت نبراسا لحكام البيت الأبيض.
لا تكهنات لما يجري اليوم حول مصير العالم بعدما تولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة. هنالك لغط كثير وتحليلات جمة لو دونت لا تستوعبها عشرات المجلدات حول مصير العالم. صحيح أن ترامب ماضٍ في إخماد نيران الحروب حول العالم، ولكن لا يصب ذلك في مصلحة الشعوب التي تتعرض بلدانها للصراعات كما في روسيا وأوكرانيا والسودان وفلسطين وغيرها. الأمور تصب في مصلحة أميركا، هذا ما يجمع عليه الجميع، وأيضا حماية أمن إسرائيل، وغير ذلك لا يعني للولايات المتحدة شيئا.
الولايات المتحدة التي تضم خمسين ولاية تحكم العالم بمصوغات تعتقد أنها مولودة من رحم القانون الدولي وتستمد شرعية ما تقوم به من أفعال من هيئة الأمم المتحدة. هكذا بات الوضع الأميركي في حالة من الخلل على صعيد التكوين النفسي للشخوص الذين يديرون الحكم اليوم ودخلوا البيت الأبيض قبل ذلك.
◄ لا تكهنات لما يجري اليوم حول مصير العالم بعدما تولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة. هنالك لغط كثير وتحليلات جمة لو دونت لا تستوعبها عشرات المجلدات حول مصير العالم
يقول الدكتور سعيد اللاوندي في كتابه “ثقوب في البيت الأبيض الأميركي” إن ثمة أميركتين: الأولى أميركا الشعارات النظرية الرنانة التي تملأ الدنيا ضوضاء لترويج أفكار الماغناكارتا ووثيقة حقوق الإنسان، والثانية أميركا الواقع والممارسة التي تقف على طرفي نقيض مع الأولى. هنالك دليل صارخ يفضح أميركا جهارا نهارا منذ خليقتها حتى يوم الناس هذا، بدءا بالزنوج سكان القارة المكتشفة الأصليين وانتهاء بالغزو الفكري الأميركي والاستعمار تحت نظرية الضربة الاستباقية المجبولة بالكذب والنفاق.
هذا اللون من الاستعمار المباشر وضع أميركا تحت المحك حيث سقطت ورقة التوت عن خبث الأسلوب الذي انتهجه جهابذة الحكام في أميركا بمنظار الحقد الأعمى واستغلالهم لأبشع صور القهر وامتصاص دماء الشعوب ومقدراتهم. وبعدها جاء مبدأ مونرو المتقوقع على نفسه، ليرسم سياسته الخبيثة لتنطلق بعدها أميركا للاستحواذ على العالم. بداية حبس مونرو السياسة الخارجية الأميركية في صندوق زجاج ليكون شاهدا ومشهودا بفعل حرارة الأنانية وحب النفس. لقد كسر زجاج الصندوق منذ أن بدأ فرانكلين روزفلت يسرح بخياله بعيدا بعدما رأى خطر اليهود على كيان بلاده الوليد على الصعيد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي.
هذه التقية الأميركية شرعت تطفو على السطح بعد الحرب العالمية الثانية واضمحلال كبرى دول أوروبا وقتها بريطانيا وفرنسا. بعدها تسربلت أميركا ثوبا سياسيا آخر وهو النظر إلى أبعد من ولاياتها، فاشرأبت عيناها إلى المحيطات والبحار وإلى بلاد لم تطأها من بعد. لكن الشيوعية بعد القيصرية كانت لها بالمرصاد في بعض المناطق الغنية بالنفط والدول الضعيفة التي تتمتع بمواقع جغرافية مهمة على الخارطة العالمية. فأول ما بدأت أميركا بسياستها منافسة بريطانيا المهزومة بعد الحرب العالمية الثانية في مستعمراتها، وفرنسا الجريحة في بعض ما تبقى لها من مناطق نفوذ في أفريقيا ومناطق آسيا.
لقد خرجت فرنسا من فيتنام لتحل محلها الولايات المتحدة للتضييق على الصين وتدمير الاتحاد السوفييتي. من هنا ظهرت المنافسة الشديدة وتحرك الاتحاد السوفييتي لدعم بعض الدول المضطهدة ضد التحرك الأميركي وبنفس الأسلوب الذي عملت به أميركا. فبات في العالم قطبان لا ثالث لهما حتى قضى الله أمرا كان مفعولا، وشرعت أميركا تصول وتجول في العالم وحملت شعار حقوق الإنسان، وحرية الكلمة والديمقراطية لإيهام الشعوب أن الطريق الوحيد للخلاص من أنظمة الاستبداد وغير الموالية لها من خلال الأقانيم الثلاثة. وتخلصت من نورييغا “تاجر المخدرات” بدوافع حماية حقوق الإنسان، وتخلت أيضا عن إدوارد شيفارد نادزه بنفس الطريقة، وتركت وتخلت عن الكثير ممن كانوا يدورون في فلكها.