هل تفقد إسرائيل عمقها الخارجي

تعرضت إسرائيل لانتقادات شديدة من جانب الزعماء الأوروبيين الذين يسعون إلى وقف عملياتها العسكرية في غزة وجنوب لبنان. وتشمل هذه الدعوات تعليق مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل، والنظر في فرض عقوبات على وزراء إسرائيليين من اليمين المتطرف، بالإضافة إلى مراجعة اتفاقية الشراكة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي.
تبدو السياسة الخارجية لإسرائيل وكأنها تعود القهقرى بسبب الحرب في غزة، وهو ما حذّر منه كبار السياسيين الإسرائيليين وبعض المسؤولين الأمنيين الذين شغلوا مناصب رفيعة لسنوات طويلة. في المقابل، بعثت أوروبا برسائل تحذير وتهديدات بقطع العلاقات، كما لوّحت بإمكانية اعتقال بعض رموز الصهيونية الدينية في حال دخولهم أراضي بعض الدول الأوروبية، مثل إسبانيا التي تدرس اليوم وقف تزويد إسرائيل بالسلاح. هذا التحوّل في السياسة الأوروبية يؤكد رغبة تلك الدول في إنهاء الحرب فورا، وإدخال المساعدات إلى قطاع غزة، حيث يعاني السكان من الجوع والعطش وانتشار الأمراض.
وفق دراسات ميدانية، فإن أقل من 5 في المئة من أراضي غزة صالحة للزراعة اليوم، على الرغم من أن القطاع كان منتجا زراعيا رئيسيا في الماضي. لكن هذا لا يعني أن الأوروبيين الذين يطالبون بإنهاء الحرب يقفون إلى جانب حماس دون شروط، إذ هناك استحقاقات يجب على الحركة دفعها، مثل نزع سلاحها، والخروج الآمن من القطاع، وتسليم إدارة غزة لجهات دولية مؤقتا، قبل انتقال السلطة إلى الحكومة الفلسطينية.
◄ بعض الدول الأوروبية تبدو جادة في محاصرة إسرائيل، لكنها لا تسعى إلى مقاطعتها كليا، بل تريد الضغط عليها لوقف الحرب والعودة إلى المفاوضات، وصولا إلى حل الدولتين
هنا يكمن الخلاف الجوهري، حماس لا تزال متمسكة بالحكم والإدارة المدنية والأمنية لغزة، وهذا التمسك يعكس مخاوفها من المستقبل، خاصة من المساءلة الشعبية في ظل الدمار الهائل الذي لحق بالقطاع منذ السابع من أكتوبر. تشير التقديرات إلى أن أكثر من 60 في المئة من المباني دُمّرت جزئيا أو كليا، إضافة إلى تعطل النظام التعليمي منذ نحو عامين.
هناك اليوم مقاربة واضحة بين إسرائيل التي تواجه عزلة دولية متزايدة، وحماس التي تجد نفسها في موقف مشابه، فكلا الطرفين مصرٌّ على التمسك بأهدافه. حماس تراجعت عن بعض مطالبها، لكنها لا تزال تسعى إلى خروج إسرائيل الكامل من القطاع، وقف الحرب، استئناف المساعدات، وإعادة الإعمار، بينما إسرائيل ترفض أيّ حل سوى مواصلة القتال حتى الرمق الأخير، حتى لو تضمّن ذلك صفقة سياسية محتملة.
في ظل هذا التعنت المتبادل، فإن المشهد التراجيدي لسكان غزة يزداد سوءا، حيث الجوع ونقص الموارد الأساسية والمخاطر الصحية تهيمن على الحياة اليومية، بينما اليمين الإسرائيلي يدفع باتجاه إعادة الاستيطان في غزة كجزء من مشروع “أرض إسرائيل الكبرى”.
على الجانب الأوروبي، هناك توجه واضح نحو وقف الحرب وتسوية القضية الفلسطينية، وهو ما يتعارض بشدة مع سياسات إسرائيل، خصوصا الأحزاب الدينية المتطرفة التي ترفض أيّ اتفاق. فقد أعلن بتسلئيل سموتريتش خلال مسيرة الأعلام في القدس “لا نهتم بما يقوله العالم عنا، لسنا احتلالا، بل نحن في دولتنا وعلى أرضنا!”
ورغم أن الدول الأوروبية المتنفذة تؤكد أن حل الدولتين هو السبيل الوحيد لضمان سلام دائم، فإن إسرائيل ترفض هذا الطرح رفضا قاطعا، بل إن جميع الأحزاب الفاعلة في المشهد الإسرائيلي تعارض الحل بشكل كامل.
يوم مسيرة الأعلام شهد مظاهر سياسية تؤكد عدم اكتراث إسرائيل بالضغوط الدولية، فالمجموعة الأوروبية تلوّح بمقاطعة إسرائيل، لكن الأخيرة لا تبدي اهتماما. بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صرّح علنا “نحن مستعدون للقتال وحدنا، ولسنا في حاجة إلى العالم!”
◄ في ظل التعنت المتبادل فإن المشهد التراجيدي لسكان غزة يزداد سوءا حيث الجوع ونقص الموارد والمخاطر الصحية تهيمن على الحياة بينما اليمين الإسرائيلي يدفع باتجاه إعادة الاستيطان في غزة
ورغم تصاعد الضغوط الأوروبية، جاء رد فعل نتنياهو مزلزلا، حيث تجاهل زعماء فرنسا وبريطانيا وكندا، واتهمهم بمحاولة مساعدة حماس، بسبب بيانهم المشترك الذي دعا إلى اتخاذ “إجراءات ملموسة” ضد إسرائيل.
وقال نتنياهو في تعليقه على البيان “أنتم على الجانب الخطأ من الإنسانية والتاريخ، أنتم تدعمون مرتكبي جرائم القتل الجماعي، المغتصبين، قتلة الأطفال، والخاطفين!”
هذا التصعيد الكلامي يعكس تآكل الخطاب الإسرائيلي الرسمي، الذي كان يقدم إسرائيل كضحية دائمة للإرهاب الفلسطيني، لكنه بدأ يفقد جاذبيته عالميا، خاصة في ظل الاستخدام المفرط للقوة ضد المدنيين في غزة، وتقارير مؤسسات دولية تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب.
إلى جانب ذلك، فإن صعود الخطاب اليميني المتطرف داخل إسرائيل، الذي يقوده إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بدأ يضعف فكرة الديمقراطية الليبرالية التي لطالما روّجت لها إسرائيل. هذا التحوّل أدى إلى فك تدريجي للارتباط التقليدي بين إسرائيل والدول الأوروبية، التي كانت داعمة لها تاريخيا.
الخلاصة أن بعض الدول الأوروبية تبدو جادة في محاصرة إسرائيل، لكنها لا تسعى إلى مقاطعتها كليا، بل تريد الضغط عليها لوقف الحرب والعودة إلى المفاوضات، وصولا إلى حل الدولتين. لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه: هل المجموعة الأوروبية قادرة فعليا على إجبار إسرائيل على وقف الحرب؟
الإجابة قد تكون معقدة، فطالما أن الولايات المتحدة، بوصفها القطب العالمي الأول، لا تزال داعمة بقوة لإسرائيل، فلن يكون هناك ما يدفع نتنياهو وحكومته إلى الرضوخ للضغوط الأوروبية. لا يجب أن ننسى أيضا اللوبيات المؤثرة داخل أوروبا، والتي تخدم المصالح الإسرائيلية بشكل كبير.
لهذا، يمكننا أن نقول باختصار: نسمع جعجعة، لكننا لا نرى طحنا.